في التجربة الإنسانية الطويلة مع السلطة ظل سؤال التنظيم السياسي سؤالا وجوديا لا يقل عمقا عن الأسئلة الفلسفية الكبرى كيف يمكن للجماعة البشرية أن تبتكر صيغة تتيح لها الاستمرار المشترك من غير أن تتحول الوحدة إلى قسر أو الحرية إلى فوضى هذا السؤال أنتج عبر التاريخ أشكالا متمايزة من النظم السياسية مثل النظام المركزي والنظام الاتحادي والنظام الفيدرالي وهي ليست مجرد تقنيات إدارية بل أنماط أنطولوجية تحدد موقع الفرد والجماعة والكيان العام في شبكة السلطة يمكن تعريف النظام المركزي بأنه انصهار الإرادات الجزئية في إرادة عليا واحدة لا تعترف بالجزء إلا بقدر ما يخدم الكل أما النظام الاتحادي فهو توافق بين وحدات متمايزة تنشئ كيانا أعلى يحافظ على ذاتيتها ويضيف إليها هوية مشتركة في حين أن النظام الفيدرالي يقوم على الاعتراف بالجزء بوصفه ذاتا كاملة والكل بوصفه ضرورة لبقاء تلك الذات أي إنه توازن فلسفي جدلي بين التعدد والوحدة يجعل من الاختلاف مكونا لجوهر الكيان السياسي بدلا من تهديد له تاريخيا نشأ النظام المركزي تعبيرا سياسيا عن سعي الملكيات المطلقة في أوروبا للقضاء على تفتت الإقطاع وتعدد مراكز السلطة حيث جسد الملك الدولة في ذاته وجعل من المركز مرآة وحيدة لها أما النظام الاتحادي فقد نشأ من حاجة جماعات صغيرة إلى حماية نفسها من الأخطار الخارجية كما في سويسرا التي بنت من تباين الكانتونات صيغة شراكة متينة والنظام الفيدرالي تبلور في أميركا الحديثة حيث اجتمعت ولايات مستقلة تاريخيا لتبتكر دستورا يسمح لها بالاتحاد في السيادة العليا مع الاحتفاظ بالسيادة المحلية فاتخذ الاعتراف بالتعدد ركيزة للقوة وليس تهديدا للوحدة يحتاج النظام المركزي إلى سلطة بيروقراطية قوية وقوة رمزية تجعل الأكثرية الثقافية أو المذهبية تتماهى مع الدولة على مستوى الخصائص يحتاج النظام المركزي إلى سلطة بيروقراطية قوية وقوة رمزية تجعل الأكثرية الثقافية أو المذهبية تتماهى مع الدولة وهو نظام الانسجام القسري الذي يقدم الوحدة على الحرية ويعتبر التمايز شذوذا يجب ضبطه أما النظام الاتحادي فهو يقوم على وجود كيانات تاريخية متمايزة ترى في الاتحاد وسيلة لحماية خصوصياتها ويعتمد على التعاقد الطوعي والاعتراف المتبادل أما الفيدرالية فهي تفترض تعددا لا يمكن تجاوزه أو إذابته وتقوم على توزيع السلطة دستوريا بين المركز والأقاليم بحيث لا يبتلع أحدهما الآخر فالاعتراف بالتعدد فيها ليس خيارا سياسيا بل شرط وجودي لبقاء الكيان تظهر التجربة السورية مأزق المركزية في مجتمع متعدد منذ الاستقلال فرضت الأكثرية المذهبية والسياسية النظام المركزي تحت شعار الوحدة الوطنية بينما كان الواقع فسيفساء من الأقليات القومية والمذهبية مثل الأكراد والآشوريين والأرمن والدروز والعلويين والإسماعيليين والسنة والمسيحيين خلال الوحدة مع مصر 1958 1961 وزيادة سيطرة حزب البعث لاحقا صار النظام المركزي أداة هيمنة حيث اختزلت الدولة التعدد في هامش سياسي وثقافي وارتبطت الوحدة بفكرة العروبة الأحادية ما خلق احتقانا مستمرا أدى إلى انفجار الثورة السورية عام 2011 المركزية لم تعترف بالاختلاف إلا لتقمعه ولم تر التعدد إلا تهديدا للسلطة فأظهرت محدودية فعاليتها في مجتمع متنوع لم تعترفnbsp المركزية السورية بالاختلاف إلا لتقمعه ولم تر التعدد إلا تهديدا للسلطة فأظهرت محدودية فعاليتها في مجتمع متنوع الحاجة السورية هي إلى صيغة تسمح لكل جماعة بالتعبير عن ذاتها السياسية والثقافية والمشاركة في صياغة الكيان العام على قاعدة الاعتراف المتبادل الفيدرالية تمثل هذه الصيغة إذ لا تذوب الجماعات في الأكثرية بل تمنحها إطارا دستوريا يحمي هويتها ويحول اختلافها إلى مصدر قوة للكيان العام التعدد في سورية تاريخي وجذري فالأكراد ليسوا مجرد أقلية لغوية والعلويون والدروز ليسوا مجرد جماعات مذهبية والمسيحيون كانوا دائما صناعا رئيسيين للثقافة والمدنية اعتراف الدولة بهم دستوريا يحولهم من بؤر مقاومة إلى روافد للهوية الوطنية المشتركة قد يثار القلق من أن الفيدرالية تؤدي إلى الانفصال لكن التجربة التاريخية تؤكد العكس المجتمعات التي قمعت فيها الهويات انفجرت وتمزقت بينما تلك التي اعترفت بالفيدرالية حافظت على وحدتها الولايات المتحدة كندا سويسرا وألمانيا أمثلة على أن الفيدرالية حين تبنى على عقد اجتماعي متين تصبح مصدر قوة لا ضعف سورية إذا أرادت الخروج من مأزقها التاريخي لا بد أن تتجه نحو الفيدرالية وإلا فستظل عالقة بين مركزية قسرية وفوضى ناشئة عن إنكار التعدد الفيدرالية السورية ليست استيرادا غريبا بل ابتكار سياسي يلبي حاجة مجتمع يريد أن يكون واحدا من دون التخلي عن اختلافه المستقبل السوري مرهون بقدرة النخب على تجاوز الخوف من الفيدرالية واعتبارها ضمانة الوحدة لا تهديدا لها الفيدرالية تعيد تعريف معنى الوطنية ليست ذوبان الجماعات في الأكثرية بل إيجاد مساحة لكل جماعة لتكون ممثلة في الكيان العام وانتماؤها للوطن انتماء حرا لا مفروضا بالقسر الفيدرالية تجعل سورية كيانا يستطيع القول نحن واحد لأننا مختلفون ونحن مختلفون لأننا واحدون جوهرها قائم على مفهوم الاعتراف كما صاغه هيغل وآكسل هونيث الاعتراف ليس ترفا أو مجاملة بل شرط أساسي لتكوين الهوية والذات والكرامة فهو يحمي الجماعات من الاغتراب والعنف ويمنحها الشرعية لتكون جزءا من الكل المشترك في الختام تثبت التجربة السورية أن المركزية استنفدت صلاحيتها والاتحادية وحدها لا تكفي لأنها تفترض كيانات مستقلة مسبقا بينما الفيدرالية توفر صيغة متوازنة تحفظ وحدة الدولة وسيادتها وتعترف بالتعدد الجذري وتحوله إلى مصدر غنى المستقبل السوري مرهون بقدرة النخب على تجاوز الخوف من الفيدرالية واعتبارها ضمانة الوحدة لا تهديدا لها بهذا المعنى الانحياز إلى الفيدرالية ليس موقفا نظريا بل استجابة عقلانية لمأزق واقعي سورية إن لم تصبح فيدرالية ستظل محاصرة بين قسر الأكثرية وتمرد الأقليات فيما الفيدرالية تمنحها فرصة أن تكون وطنا يجمع الوحدة والاختلاف معا