تعرفت إلى فن الجداريات في سن الثامنة عشرة حين كنت عضوا في مجموعة تشجيع للنادي المحلي بمدينة قلعة السراغنة وقد شكل ترسيم البصمة البصرية على الجدران ممارسة جماعية تؤكد الحضور وتفرض الرمزية وخلال تلك المرحلة اكتسبت مبادئ مزج الألوان وتقنيات الرسم بمسدس الرش ومع اتساع صدى هذه التجربة انتقل هذا الفعل الجمالي إلى الفضاء المدرسي حين استدعانا أحد أساتذة اللغة الإنكليزية لإنجاز عبارات تحفيزية وبورتريهات لشخصيات فكرية وثقافية رغم محدودية وعينا آنذاك بدلالاتها الرمزية العميقة لاحقا ومع استكمال دراستي العليا في الرباط والتحاقي بماستر سرديات الأنساق الرمزية والثقافية والسيميولوجية بجامعة محمد الخامس تحت إشراف الدكتور محمد الداهي اتضح لي في ضوء التصور السوسيري للعلامة داخل النسق أن فن الجداريات يشكل نسقا ثقافيا رمزيا قائما بذاته بوصفه ممارسة مستقرة تنتج المعنى وتؤثر في الوعي والسلوك داخل الأنساق الاجتماعية ومن هنا تبلورت فكرة إعادة النظر في الجداريات داخل المؤسسات التعليمية حيث جرى اختزال الجدران في وظيفة الفصل والحماية وكأن الفعل التربوي محصور داخل الصفوف غير أن هذا التصور يغفل الدور العميق للبيئة البصرية في تشكيل وعي المتعلم وبناء علاقته بالمكان والمعرفة فالجدار المدرسي حين يترك محايدا لا يكون كذلك فعلا بل يهدر إمكانا تربويا وجماليا كامنا إن إعادة التفكير في أسوار المدارس بوصفها منصات معرفية تفتح أفقا جديدا لفهم التعليم باعتباره تجربة ممتدة تتجاوز الكتاب والسبورة فالصورة حين توظف بوعي لا تعمل كعنصر تزييني بل كوسيط ثقافي قادر على إثارة السؤال وتحفيز الفضول وربط المتعلم بسياقات أوسع من المنهج المباشر كما أن حضور شخصيات علمية أو فكرية أو فنية على الجدران لا يقدم معرفة جاهزة بل يخلق احتكاكا يوميا مع رموز إنسانية تدعو إلى البحث والتأمل إعادة التفكير في أسوار المدارس بوصفها منصات معرفية تفتح أفقا جديدا لفهم التعليم باعتباره تجربة ممتدة تتجاوز الكتاب والسبورة وتؤكد تجارب غربية عديدة هذا المنطق ففي الولايات المتحدة أسهمت مشاريع مثل The RAW Project في ميامي ودنفر في تحويل مرافق المدارس إلى لوحات فنية ضخمة عبر شراكات بين الفنانين والطلاب ما انعكس إيجابا على المناخ المدرسي ومستويات التفاعل اليومي وعلى الصعيد التاريخي تبرز جدارية Life of Washington في مدرسة جورج واشنطن الثانوية بسان فرانسيسكو التي أنجزها الفنان فيكتور أرناوتوف في ثلاثينيات القرن الماضي مثالا على قدرة الجدار على أداء وظيفة تعليمية وبصرية تحفز النقاش حول التاريخ والهوية أما في أوروبا فتظهر المدارس الفنلندية والسويدية اهتماما خاصا بتصميم البيئة المدرسية بما يدعم التعلم متعدد القنوات ويعزز الراحة النفسية ما يجعل الجدار عنصرا تربويا مدروسا ضمن فلسفة التعليم الشامل ويفسر هذا الدور المزدوج للجدارية بوصفها عملا جماليا وحاملا للمعنى تأثيرها التربوي والنفسي فهي ترفع الحس الجمالي لدى المتعلم من جهة وتغذي فضوله المعرفي من جهة أخرى فاللون والخط والتكوين لا تستخدم للزينة فقط بل بوصفها أدوات تنظيم بصري تساعد على تثبيت المعلومة وتنشيط الذاكرة وربط المفاهيم المجردة بتجربة حسية يومية وهكذا يتحول الجدار إلى مساحة تعليم بصري دائم لا مجرد خلفية جامدة وتتضاعف قيمة هذه الجداريات حين تدمج بالفعل التعليمي نفسه إذ يمكن للمعلم أن يستثمرها منطلقا للنقاش أو البحث أو الأنشطة التطبيقية كما يمكن للطلاب المشاركة في تخطيطها وتنفيذها فيتحول الجدار من صورة جاهزة إلى مشروع جماعي عندها لا يعود المتعلم متلقيا سلبيا بل شريكا في إنتاج المعنى ومتفاعلا مع الفن بوصفه أداة تفكير لا مجرد مشاهدة ويمكن النظر إلى الجداريات التعليمية المعاصرة في الفضاء المدرسي العربي بوصفها ممارسة ثقافية رمزية تتجاوز التزيين إلى إنتاج المعنى حيث تشتغل الصورة داخل النسق التعليمي كوسيط بصري يساهم في بناء الوعي وتوجيه الانتباه وصياغة علاقة المتعلم بالمكان والمعرفة كما يعكس اختيار الرموز العلمية والفنية بلغة بصرية معاصرة وعيا بطبيعة المتلقي المدرسي وبضرورة أن تكون الصورة محفزة وواضحة دون الوقوع في التبسيط المخل أو الخطابية المباشرة إن إعادة التفكير في أسوار المدارس بوصفها منصات معرفية بصرية تمثل موقفا تربويا وثقافيا يتجاوز حدود التجميل حيث تبنى المعرفة عبر الصورة والمكان بقدر ما تنقل عبر النص ومن ثم يتحول الجدار المدرسي إلى فاعل تربوي حقيقي يوسع الفعل التعليمي ليشمل العقل والحس وينتج أثرا تربويا أعمق وأدوم