تتأرجح سورية ومنذ أكثر من عقد بين خريطة فشلت في لم شمل أبنائها أو استبدال ذاكرتها المثقلة بالخوف بأخرى يمكن العيش وفقها خلال زيارتي إلى دمشق بعد سقوط النظام تشابهت الألسن في قولها إن الحرب لم تدمر المدن فقط بل ضربت أيضا ضمير الـنحن في مقتل ومن سياق الأحداث التي تلت سقوط الأسد البائد صار السوري يعرف نفسه عبر ما يخاف منه وما يخشاه وليس ما يؤمن به وهذه أقصى درجات الانهيار فالهويات الفرعية لم تجد أمامها سوى البحث عن حماية في وجه من يفترض أنها ستحميهم لذلك تقول الأقليات والقوميات والطوائف السورية المختلفة لماذا يقتصر تعريف السوري على فئة واحدة فقط دون سواها ونحن القوميات والطوائف لم نكن ذوي هويات طارئة في المجتمع السوري بل لم نكن أبدا هويات طاردة للوئام والتوافق وهي لا تزال تحتفظ بأرشيفها المليء بمحطات الكبت الطويلة التي سببتها شعارات الوحدة التي فرضها النظام البعثي منذ الستينيات ووجدت تلك الهويات في انهيار النظام فرصة حقيقية للتعبير عن نفسها مجددا بعد أكثر من عقد على الانخراط في الثورة علما أنها لا تطلب سوى الاعتراف بها ولعل الدولة حين تشتغل بالمفهوم الحقيقي لواجباتها ـ فإنه يتحتم عليها خلق التوازن بين جميع مكونات المجتمع السوري وجعلهم جميعا روافد لهوية وطنية بدلا من دفعهم إلى ساحة الصراع والتنافس لا تزال الوطنية تعيش عوالمها الهشة وصراعها ما بين السرديات المحلية من جهة وغياب السردية الشاملة العامة المطلوبة من جهة ثانية لا يمكن إنكار تأثير الحرب على إحداث تداعيات سلبية وعنفية في الوعي السوري الجمعي وتأثيراتها الخطيرة على الهوية الوطنية والسياسية والاجتماعية بل إنها أنتجت تأثيراتها العميقة على الوعي الجمعي للسوريين ومنحت الهويات الفرعية خيارين استراتيجيين أحدهما العيش والانتماء ضمن الهوية الجامعة بما لها من حقوق وما عليها من واجبات أو انتعاشها والبحث عن ملاذ آخر بعيدا عن الإقصاء والتهميش خاصة أن مفهوم الدولة وممارساتها ونواظمها القانونية هي التي تؤجج نار الهويات أو تجعل منها تتجه إلى الهوية الجامعة من تلقاء ذاتها nbsp ولعل من الجيد استحضار سؤال استشرافي حول إمكانية إعادة بناء مشروع هوياتي وطني حقيقي يلم شمل جميع الهويات في ظل الانقسام المجتمعي والسياسي الحاصل وهو ما يتطلب إعادة النظر في معنى الوطنية نفسها لا بوصفها شعارا بل علاقة أخلاقية بين الفرد والدولة وخلال اشتغال كاتب المادة في الشأن السياسي والعام عبر سنوات الحرب السورية بدا واضحا حجم الخوف الذي كان يعتري السوريين من مرحلة ما بعد الأسد سواء من خلال الأوراق البحثية والمقالات والقضايا التي نشرت أو من خلال اللقاءات والندوات التي جرت هنا وهناك وهو الخوف الذي لم يقتصر على الجانب السياسي فقط بل كانت هواجس ومخاوف نفسية واجتماعية لم تسلم منها المدارس والتربية والمناسبات الاجتماعية والأعياد القومية وفي مجمل تلك المخاوف تمركزت هواجس عديدة حول احتمالية فشل أو ضعف الحكاية الوطنية الجامعة خاصة مع انقسام الجغرافية السورية بين حكومات ما دون دولتي وكل منها راح يمارس طقوسه في الحكم والإدارة والعلاقات على أمل أن يقدم نفسه الأكيس في سورية لكنها جميعا فشلت في خلق التكامل والانسجام المجتمعي والهوياتي بل إنها لم تركز قوتها في جانب البندقية فقط إنما في تقديم نفسها وتعريفها على أنها الأفضل في الوطنية والمؤسف أنها الحكاية التي لم تر النور منذ تسلم البعث الحكم ولا تزال الوطنية تعيش عوالمها الهشة وصراعها ما بين السرديات المحلية من جهة وغياب السردية الشاملة العامة المطلوبة من جهة ثانية ومن ثم لا تزال سورية تعيش بعيدا عن المشروع الجامع وغياب مفهوم الدولة بشكلها الواضح وانحياز الإعلان الدستوري إلى فئة دون غيرها أججت مخاوف الهويات الفرعية أكثر مما لمت شملها ضمن السردية الشاملة فهل نحتاج إلى دستور جديد فقط أم إلى وعي يصون التعدد قبل أن يكتبه ضمن السياق السوري يمكن أن تتحول المكونات المغيبة من أطراف مهمشة إلى عناصر قوة في صياغة مشروع وطني يحمي التنوع بدلا من أن يكون أداة صراع إضافة إلى أن وضع القوميات والمكونات في شمال شرق سورية مثل الكرد والآشوريين والسريان والعلويين والدروز والقوى السياسية الوطنية غير منخرطة في مشروع السلطة هي ركائز أساسية لإعادة بناء هوية وطنية جامعة لا مجال للفكاك منها مقابل غياب أي اعتراف بتجربتهم ولا بثقافتهم ما جعل الهوية الوطنية عندهم أشبه بمشروع مؤجل ومع ذلك لا يقتصر إدماج هذه المكونات في الحكاية الوطنية على الاعتراف الرمزي بل يتطلب آليات عملية للتمثيل والمشاركة السياسية بما في ذلك الانتخابات التمثيلية والمجالس المحلية والمؤسسات الاستشارية الوطنية وعلى رأسها الاعتراف الدستوري بها يشير الفيلسوف بول ريكور إلى أن لهوية تمر عبر سرديات الذات والجماعة وأن الاعتراف بالآخر والتاريخ المشترك شرط أساسي لبناء هوية مستقرة بمعنى أنه ضمن السياق السوري يمكن أن تتحول المكونات المغيبة من أطراف مهمشة إلى عناصر قوة في صياغة مشروع وطني يحمي التنوع بدلا من أن يكون أداة صراع كما أن دراسة تجربة جنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري تظهر أن الاعتراف الرسمي والتوافق السياسي بين المكونات المختلفة ساهم في صياغة هوية وطنية جديدة تستند إلى التعددية والعدالة الانتقالية لذا تتطلب القضية أكثر من مجرد سياسات رسمية بل تحتاج إلى مشروع تعاف ثقافي واسع يشمل المدرسة والفن والإعلام بهدف صياغة سردية وطنية جامعة جديدة تقوم على احترام الاختلاف وتجعله مصدرا للقوة لا للخلاف إذ يمكن الاستناد إلى رأي حنة أرنت في ذلك حين وصفت الفعل السياسي بأنه يتجذر في الاعتراف بالآخر وفي الحوار المستمر لبناء مجتمع سياسي متماسك وهو ما يمكن أن يسحب على سورية من حيث تحول تجربة التعددية القسرية إلى فعل وعي جماعي واعتماد على المصالحة الثقافية والسياسية وذلك كله مرتبط بتطور أدوار الدولة في الإدارة والحكم والمساواة والعدالة والتنظيم السياسي والاجتماعي وهوامش الحرية والديمقراطية والمساواة السياسية والتي يندرج تحتها كل أشكال الحقوق الأخرى نظرا إلى العلاقة الوطيدة بين الهوية الجامعة ونوعية الحكم والدولة التي تؤمن قانونا يسري على الجميع ويوفر هوامش واسعة للقواعد الاجتماعية والهويات المختلفة المشاركة في الأعمال والسلطة والثروة وإدارة البلاد وما ذكر ليس ترفا بل مخاوف ضاغطة جدا على الطبقات الشعبية وعودتها إلى العهد القديم والدفع بشعوبها خارج نطاق حقوقها وإبقاؤها في دائرة الخوف والقلق الدائم وللكاتب الكندي تشارلز تايلور مقالة معمقة حول سياسات الاعتراف منها الهوية لا تبنى عبر رموز سطحية بل عبر الاعتراف المتبادل وتأسيس العدالة وبناء الحماية المتساوية لكل الجماعات بدون هذا الاعتراف تصبح كل الرموز أدوات تجميل لواقع لم يتغير ربما لا نملك الآن هوية سورية جامعة لكننا نملك ما يكفي من الألم لنبدأ حوارا صادقا حولها وهو ما يحتاج إلى رؤية متكاملة وعلى اعتبار أن الإنسان حيوان اجتماعي مندمج بالضرورة في الكتل والجماعات وأن الحياة البشرية لا تقوم إلا على التكافل والتضامن وأن الأسرة التي تشكل الخلية السياسية الأولى وربط بعضهم ببعض يقود إلى المصلحة العامة والشراكة الاختيارية فإن غياب مفهوم الهوية الشاملة الجامعة ومهامها ومسؤولياتها يقود إلى تمييع الخلية الأولى نفسها وتأثير ذلك على تفتيت التنظيم السياسي بذاته الهوية الوطنية الجديدة لن تبنى بين ليلة وضحاها لكنها ممكنة إذا تم الجمع بين مشاركة الأقليات والمكونات المغيبة الإصلاح المؤسساتي والمشروع الثقافي الشامل سورية رغم هشاشتها الحالية يمكن أن تتحول إلى نموذج يثبت أن الهوية الوطنية ليست حكرا على أغلبية بل هي نتاج التعايش والاعتراف والتعاون بين جميع أبناء الوطن ربما لا نملك الآن هوية سورية جامعة لكننا نملك ما يكفي من الألم لنبدأ حوارا صادقا حولها وهو ما يحتاج إلى رؤية متكاملة تجمع بين العدالة الانتقالية ومشاركة جميع المكونات وإعادة صياغة الثقافة الوطنية والتعليمية والإعلامية في هذا الإطار يمكن للجيل الجديد أن يكون قوة فاعلة في إعادة تعريف سورية بحيث تصبح وطنا يحتضن التنوع بدلا من أن يفرقه ويصوغ مستقبلا يوازن بين الانتماء المحلي والوطنية الجامعة في سياق استقرار سياسي وأمني مستدام