من الجمل إلى الشاحنة قراءة أنثروبولوجية في تحولات البادية

٩ مشاهدات
تحاول الباحثة الأنثروبولوجية الأميركية دون تشاتي في كتابها من الجمل إلى الشاحنة تطور حياة البادية في شمال الجزيرة العربية دار الرافدين 2025 رصد تحولات البدو في المشرق العربي خلال القرن العشرين من دون الاستغراق في عرض صور فولكلورية أو نظرات استشراقية عنهم بل قدمت تحليلا عميقا لكيفية تكيفهم مع العالم الحديث دون أن يفقدوا هويتهم الثقافية ومنذ صدوره بالإنكليزية عام 1986 وحتى صدور الطبعات التالية ظل الكتاب مرجعا أكاديميا مركزيا في دراسة المجتمعات الرعوية وما زال يحتفظ براهنيته في زمن التحولات المتسارعة التي تشهدها البلدان التي تحتضن المجتمعات البدوية العربية تنطلق تشاتي من فرضية بسيطة ومركبة في أن البدو ليسوا بقايا ماض منقرض بل جماعات بشرية قادرة على إعادة ابتكار أساليب عيشها مع تغير الظروف الاقتصادية والسياسية اعتمدت الباحثة في دراستها على مشاهدات ميدانية طويلة الأمد أجرتها في مناطق صحراوية تمتد بين شمال سورية والأردن والعراق خلال السبعينيات فجمعت روايات البدو وملاحظاتهم اليومية لتعيد بناء الصورة من داخل المجتمع لا من خارجه تكتسب هذه المقاربة أهميتها من كونها توازن بين التوصيف الإثنوغرافي والتحليل الاجتماعي والسياسي فتظهر كيف تداخلت قرارات الدولة الحديثة وشبكات السوق والتحولات البيئية في تشكيل الحياة البدوية الجديدة العرض التاريخي الذي يبدأ به الكتاب يوضح أن البداوة ليست انقطاعا عن الحضارة بل نمط حياة متكامل نشأ استجابة لشروط بيئية واقتصادية قاسية فالقبيلة عند الباحثة ليست وحدة نسب فحسب بل قواعد متوارثة تحفظ التوازن بين الفرد والجماعة ويقوم فيها الشرف والكرم وحماية الضيف مقام القانون المدني وأقام البدو من خلال هذه البنية التضامنية عبر القرون شبكات تفاعل مستمرة مع القرى والمدن من خلال التجارة والزواج وتبادل الخدمات ما ينفي الصورة النمطية عن انعزالهم عن العالم اعتمدت الباحثة على مشاهدات ميدانية في سورية والأردن والعراق تحليل العلاقة المتوترة بين البدو والدولة الحديثة بدءا من نهاية العهد العثماني وصولا إلى حقبة ما بعد الاستقلال أخذ حيزا من صفحات الكتاب إذ ترى الباحثة أن السلطة المركزية سعت إلى إخضاع القبائل عبر فرض الضرائب ونزع السلاح وتقييد حركة قطعان الماشية في محاولة لدمجها في الاقتصاد الوطني غير أن هذه السياسات لم تنتج التبعية فقط بل أنتجت أشكالا جديدة من التكيف أيضا إذ تحول بعض البدو إلى وسطاء بين السلطة والمجتمع أو إلى موظفين في الأجهزة الإدارية والعسكرية ما خلق انقساما داخليا بين بدو يتماهون مع الدولة وبين آخرين يريدون أن يحافظوا على وجودهم في البوادي من دون الالتزام بإملاءات السلطات وفي سياق تحليل الأنماط التي تتماس مع بعضها في البيئات البدوية والحضرية تفكك تشاتي الثنائية القديمة بين البدو والحضر مبينة أن العلاقة بينهما تكاملية لا تضادية فالمجتمعان يتبادلان السلع والرموز والقيم ويتأثر كل منهما بالآخر في اللغة واللباس والعادات بهذا المعنى تبرز الباحثة أن البدو لم يكونوا معزولين عن التمدن بل جزءا من حركة المجتمع العربي الكبرى وأن البداوة تمثل في جوهرها شكلا من أشكال التنظيم الاجتماعي المرن القادر على إعادة تشكيل ذاته بحسب الحاجة تفرد تشاتي حيزا مهما للحديث عن الأدوات الإنتاجية بوصفها تعبيرا عن الأنماط الاجتماعية ولا سيما الفرق بين البدو الذين كانوا يرعون الإبل واكتسبوا بذلك منزلة كبيرة أمام غيرهم وبين أولئك الذين كانوا يرعون الأغنام والذين اعتبروا أقل مرتبة وعليه تتوجه الباحثة إلى الجمل بوصفه العمود الفقري للحياة البدوية ورمز كرامتها فالجمل لم يكن وسيلة نقل فحسب بل هو معيار للثروة والمكانة الاجتماعية ووسيلة لحفظ التقاليد عبر الرحلة والتنقل ويصف الكتاب تفاصيل دقيقة عن أنماط الرعي وتقسيم العمل في الخيمة والطقوس اليومية ليبين أن النظام الاقتصادي للبدو قائم على منظومة ثقافية متكاملة تربط الإنسان بالأرض والحيوان والمجتمع في شبكة واحدة من المعاني والرموز وفي الفصل المحوري تتناول الباحثة التحول من الإبل إلى الشاحنات بوصفها علامة على دخول الحداثة إلى الصحراء تظهر كيف غيرت وسائل النقل الحديثة أنماط الرعي والتجارة والرحلة وكيف سمحت الشاحنات بالوصول إلى الأسواق البعيدة وخلقت فرصا جديدة للعمل المأجور وفتحت الصحراء أمام الدولة والاقتصاد النقدي يصف الكتاب تفاصيل دقيقة عن أنماط الرعي وتقسيم العمل في الخيمة لكن الأهم من ذلك هو أن البدو لم يتخلوا عن هويتهم مع هذا التحول بل أعادوا تفسير الرموز القديمة بلغة جديدة فالشاحنة صارت تحمل المعنى ذاته الذي كان للجمل رمز القوة والاستقلالية والتواصل وتبين تشاتي أن هذا التحول لا يعني نهاية البداوة بل انتقالها إلى طور آخر أكثر مرونة وتعددا وتذهب تشاتي إلى أن المجتمعات البدوية قادرة على الاندماج في العالم الحديث دون الذوبان فيه فتوصي بأن تبنى السياسات التنموية على احترام القيم المحلية بدل فرض نموذج مديني جاهز لأن فقدان التوازن بين التقليدي والحديث يقود إلى تفكك اجتماعي وثقافي وترى أن رواية قصة البدو ليست حنينا إلى الماضي بل حكاية عن حيوية الإنسان في مواجهة التحول وعن قدرة الثقافات على إعادة ابتكار ذاتها كلما تغيرت شروط العيش ورغم القيمة الكبيرة التي يحتفظ بها الكتاب في تفسير تحولات القرن العشرين فإن العقدين الأخيرين شهدا تحولا نوعيا لم تتناوله تشاتي بطبيعة الحال الثورة الرقمية فالعالم البدوي اليوم لم يعد يتحرك فقط عبر الشاحنات بل عبر الهواتف الذكية وشبكات الإنترنت التي أعادت تشكيل التواصل الاجتماعي والسياسي داخل القبائل فنداء التضامن بين العشائر الفزعة الذي كان إطلاقه يحتاج إلى اجتماع شيوخ ومجلس بات اليوم يعلن عبر منشور في فيسبوك أو رسالة جماعية في واتساب وتنتشر بسرعة تفوق أي نداء شفهي أي أن القبيلة انتقلت من فضاء الرمل إلى فضاء الشبكة حافظة روح التضامن والهوية الجماعية التي تمارسها عبر أدوات رقمية جديدة هذا الواقع يفتح أفقا جديدا لقراءة الكتاب فكما لاحظت تشاتي انتقال البدو من الإبل إلى الشاحنات يمكننا اليوم أن نضيف حلقة ثالثة في السلسلة من الشاحنة إلى الشاشة شاعر وناقد سوري مقيم في فرنسا

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2025 أحداث العالم