في الذاكرة الموجعة صرخة ندم لروح خليل معتوق

٥٦ مشاهدة
حين أعود بذاكرتي إلى السنوات التي عشتها في سورية تحت حكم النظام الأسدي المجرم أول ما يواجهني ليس الخوف ولا القهر وحدهما بل ذلك الشعور الثقيل بالندم ندم لا يقتصر على مواجهة طغيان دموي لا يعرف رحمة بل يمتد ليشمل لحظات ضعفي سكوتي حين كان يجب أن أصرخ تراجعي حين كان ينبغي أن أقف بصلابة مسايرتي حين كان المطلوب أن أقول لا واضحة وصريحة لا تحتمل التأويل ولا المساومة لا أكتب اليوم لتجميل الصورة أو لتلميع تجربتنا بل لأقول بصراحة إنني كثيرا ما عرفت أن الصوت كان يجب أن يكون أعلى وأن الرد كان يجب أن يكون أجرأ عشت متأرجحا بين المحاولة والصمت بين العمل والمراوغة بين الرغبة بالعدل والخوف من بطش من لا يعرف معنى الكرامة كنت جزءا من منظمة حقوقية حملت على عاتقها مهمة الدفاع عن المعتقلين وكنت مع رفاقي نضع أنفسنا في مواجهة غير متكافئة مع نظام يكره القانون بقدر ما يكره الحرية حضرنا جلسات التحقيق والمحاكم دافعنا عن الضحايا وثقنا الجرائم كتبنا وصرخنا لكن وبصدق مؤلم لم نكن دائما على قدر المهمة تهاونا في محطات كان يجب أن نكون فيها أكثر صرامة وتخاذلنا أحيانا تحت ضغط الخوف والإرهاق لا أكتب اليوم لتجميل الصورة أو لتلميع تجربتنا بل لأقول بصراحة إنني كثيرا ما عرفت أن الصوت كان يجب أن يكون أعلى وأن الرد كان يجب أن يكون أجرأ وأن الخوف كان يجب أن يهزم لكنني صمت في بعض الأحيان وفي ذلك الصمت خسرت جزءا من إنسانيتي لم يكن الموت الرعب الأكبر الذي كان يسيطر على الناشطين في سورية بل الإهانة ولحظات التعذيب المهينة داخل أقبية المخابرات الأسدية حين يجرد الإنسان من هويته ومن كرامته ومن أبسط مقومات الدفاع عن ذاته كان التهديد الدائم بالسجن والتعذيب يحاصرنا جميعا فيدفعنا إلى تخفيض السقف خطوة بعد خطوة حتى بتنا نساوم على البديهيات كل تراجع كل تردد كل مساومة صغيرة كانت تضيف عاما جديدا إلى عمر الاستبداد ويمنح المجرم شرعية من سكوتنا هكذا استمرت آلة القمع في سحقنا جميعا ليس بالقوة الأمنية فحسب بل أيضا بعجزنا عن رفع الصوت في اللحظة المناسبة من بين الأسماء التي ما تزال تلاحقني كلما استرجعت تلك المرحلة يبرز اسم صديقي وأستاذي وشريكي في النضال المحامي خليل معتوق كان رجلا نادرا لا يعرف الخوف ولا يقبل المساومة يؤمن بالحق ويستخدم القانون سلاحا في مواجهة سلطة لا تؤمن إلا بالعنف عملنا معا لسنوات طويلة دافعنا فيها عن آلاف المعتقلين وتحدينا منظومة القهر الأسدية بكل ما كنا نملك من أدوات سلمية اختطفته المخابرات الأسدية في 2 أكتوبر تشرين الأول 2012 مع زميله محمد ظاظا ليختفيا معا منذ ذلك اليوم وأنكرت اعتقاله وبعد شهرين من اعتقاله التقيت بمعتقلين خرجوا من أقبية الفرع 285 التابع لإدارة أمن الدولة وأكدوا لي أنهم شاهدوا خليل معتوق في الفرع المذكور قبل إحالتهم إلى القضاء سقط نظام الإجرام وهرب رأسه ذليلا إلى موسكو فتحت السجون والمعتقلات والزنازين وخرج من كان على قيد الحياة وبقي خليل معتوق ورفيقه ظاظا ومعهم عشرات آلاف من المعتقلات والمعتقلين لا أحد يملك يقينا أي شيء عن مصيرهم حتى الآن كلما فكرت بخليل أشعر أنني قصرت في حقه عجزت عن إنقاذه عن معرفة مصيره عن صون ذكراه كما يليق به وكلما استعدت عجزي في تلك اللحظات أدركت أن الندم الذي ينهشني ليس شعورا عابرا بل دين في رقبتي لا يمحوه الزمن إلى كل من بقي حيا من رفاق النضال إلى من لم يعرفوا الخوف ولم يساوموا لكم أعتذر أعتذر عن تقصير الماضي قد يظن البعض أن الاعتراف بالندم هو استسلام لكنه في الحقيقة العكس تماما الندم الحقيقي هو صوت داخلي يذكرني بأن الخطأ لا يجب أن يتكرر وبأن الصمت شراكة في الجريمة وبأن كل لحظة تهاون تمنح الاستبداد حياة إضافية لم نكن جبناء لكننا كنا منهكين مطاردين محاصرين بخوف دائم من فقدان ما تبقى لنا من حياة طبيعية ومع ذلك كان يمكن أن نكون أوضح أشد صرامة أكثر جرأة هذا ما يجعل الندم اليوم ليس مجرد بكاء على الأطلال بل حافزا للاستمرار في المقاومة بالكلمة والصوت وعدم السماح للكارثة أن تتكرر ما يزيد من مرارة الندم أنني أرى اليوم المشهد السوري يكرر التفاصيل نفسها تقريبا التطبيل للسلطة بلا مساءلة تبرير الأخطاء باسم المرحلة الانتقالية تخوين النقد وتكفير المعارضة والتعامل مع دماء السوريين وكأنها تفصيل صغير في معادلات السياسة أخشى أن يتحول نضالنا الطويل إلى مجرد ذكرى رومانسية تروى في المجالس بينما تعاد صناعة الاستبداد بوجوه مختلفة أخشى أن نصمت مرة أخرى فيأتينا استبداد جديد ونخسر النصر الذي صنع بدماء شعبنا لا يبنى الوطن على الصمت ولا على المسايرة ولا على إلغاء الأصوات الحرة الوطن يبنى بالمساءلة بالنقد بالجرأة على مواجهة السلطة مهما كان اسمها أو شعارها أي خطأ اليوم إذا سكتنا عنه سيتحول غدا إلى كارثة تدفع ثمنها الأجيال القادمة إلى كل من بقي حيا من رفاق النضال إلى من لم يعرفوا الخوف ولم يساوموا لكم أعتذر أعتذر عن تقصير الماضي عن لحظات الخوف التي كبلت أصواتنا وأحرص اليوم على ألا تتحول كلماتي إلى مبالغة تؤجج الموقف وتعرض الآخرين لمخاطر إضافية وهذا الحرص لا يلغي الالتزام بالكلمة الصادقة ولا يعني التنازل عن الحق في المواجهة بل يعني أن أختار لحظة الصرخة بعناية حتى تكون أصدق وأقوى لن أكرر الصمت سأبقى صوتا لكم ما دمت حيا سأكتب وأفضح وأقاوم لأن ما حدث لا يغتفر وما يتكرر اليوم لا يجب أن يمر ليس الندم نهاية القصة بل بدايتها الجديدة بداية لفعل مقاوم لا يعرف النوم ولصوت لا يقبل أن يخفت ولذاكرة لا تسمح بالطمس الحرية حتى لو تأخرت ستبقى تستحق من يحرسها بالكلمة ومن يصرخ في وجه كل سلطة تريد أن تدفنها

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2025 أحداث العالم