تواجه المجر واقعا اقتصاديا واجتماعيا معقدا للغاية يغذيه نزيف العقول الشابة وتراجع الابتكار وضعف النمو الاقتصادي واعتماد مفرط على الطاقة الروسية وهي عوامل تهدد مستقبل البلاد وتضع قيادته أمام تحديات حقيقية لا يمكن تجاوزها بالسياسة القومية وحدها رغم الهيمنة والدور الاقتصادي والسياسي لرئيس وزراء المجرnbsp فيكتور أوربان الذي يحتل اليوم أطول فترة حكم بين قادة حكومات الاتحاد الأوروبي وتحيط به تحالفات دولية غير مألوفة تشمل دونالد ترامب وفلاديمير بوتين وشي جين بينغ خلال الثلاثة عشر عاما الماضية غادر أكثر من 600 ألف مجري البلاد بحثا عن فرص عمل أفضل في الخارج أي نحو 6 من سكان البلاد وفي عام 2023 وحده هاجر حوالي 71 ألف شخص من أصل عشرة ملايين نسمة أغلبهم شباب متعلمون من الريف أو المدن الصغيرة ما يعني أن البلاد فقدت نسبة كبيرة من قواها العاملة الماهرة والمتعلمة هذا النزيف المعرفي ترك فجوات ملموسة في سوق العمل إذ تواجه المجر نقصا حادا في المهندسين والمبرمجين والأطباء والمختصين في العلوم والتكنولوجيا وهو ما يبطئ عمليات الابتكار ويحد من قدرة الشركات المحلية على المنافسة عالميا وتشير تقديرات البنك المركزي المجري إلى أن فقدان هذه الكفاءات يؤدي إلى تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 0 5 إلى 1 سنويا مقارنة بمستوى يمكن تحقيقه لو بقيت هذه الكفاءات في الداخل كما ساهم هذا التوجه في تراجع ريادة الأعمال فالمشاريع الناشئة تعتمد غالبا على الشباب المبدع والمتحفز وعندما يغادر هؤلاء البلاد تتحول أفكارهم وإمكاناتهم إلى اقتصادات أخرى ما يضعف المجر على المدى الطويل ويقلص قدرتها على التنافس في القطاعات عالية التقنية والابتكار إلى جانب ذلك فإن الهجرة تقلص عدد المواليد المحتمل فتراجع الشباب في سن الإنجاب يؤدي إلى انخفاض معدل النمو السكاني الطبيعي وهو ما يفاقم التحديات الاقتصادية والاجتماعية على المدى البعيد ويجعل البلاد تعتمد بشكل أكبر على الهجرة الخارجية للعمالة لتعويض النقص كما حدث مع العمال القادمين من صربيا وفيتنام والفيليبين وتظهر التقارير أن عدد أولئك الذين حصلوا على تصاريح إقامة أكثر من 12 شهرا في المجر ارتفع إلى نحو 67 ألف شخص عام 2024 منهم نحو 72 مهاجرين للعمل وأن فيتنام والفيليبين كانتا من أكبر الدول المصدرة لهؤلاء المهاجرين nbsp كما أوضح تقرير بحثي من مؤسسة فريدريش إيبرتnbsp ومقرها المجر صادر في ديسمبر كانون الأول 2024 أن عدد العمال من دول خارج الاتحاد الأوروبي ارتفع إلى نحو 78 ألف شخص في عام 2024 منهم أكثر من تسعة آلاف من الفيليبين سياسات الطاقة ورغم أن أوربان اشتهر بتشدده تجاه اللاجئين قبل عقد من الزمان فقد فتح الباب لقدوم عشرات الآلاف من العمال الأجانب من صربيا فيتنام الفيليبين وحتى الصين لسد حاجة السوق المجرية لكن ذلك لا يكفي لسد تبعات اعتماد مفرط على واردات الطاقة الروسية إذ تستورد المجر حوالي 86 من نفطها من روسيا وهو الأمر الذي أثار غضب الاتحاد الأوروبي وحصلت المجر على إعفاء من العقوبات الأميركية المفروضة على الطاقة الروسية بعد لقاء أوربان مع ترامب في واشنطن إذ منحت إدارة ترامب المجر أول أمس السبت استثناء لمدة عام من العقوبات على واردات النفط والغاز من روسيا عبر خطي أنابيب ترك ستريم ودروجبا ويعد هذا الإعفاء هدية انتخابية لأوربان قبيل الانتخابات المقبلة ويضعف موقف الاتحاد الأوروبي الموحد ضد موسكو وتعزز هذه الصفقة تموضع أوربان في محور غربي روسي مميز فالمجر تعهدت بشراء 600 مليون دولار من الغاز الطبيعي المسال الأميركي ودعم مشروعات نووية أميركية بينما تحتفظ بعلاقات قوية مع موسكو بما فيها استيراد الوقود منها بموافقة أميركية بعد زيارته الأخيرة للبيت الأبيض تحالفات متناقضة هذا التصعيد في العلاقات المجرية الأميركية لا يقتصر تأثيره على السياسة الداخلية للمجر فحسب بل يلقي بظلاله على تماسك الاتحاد الأوروبي في مواجهة روسيا فالتحالف بين أوربان وترامب والحصول على إعفاء من العقوبات الأميركية على الطاقة الروسية يضع الاتحاد الأوروبي أمام تناقض استراتيجي واضح كيف يمكن فرض سياسة موحدة تشمل كافة الدول الأعضاء إذا كانت إحدى الدول الرئيسية تتمتع باستثناء من أكبر حليف خارجي هذا الأمر لا يضعف فقط قدرة الاتحاد على تطبيق العقوبات الاقتصادية على موسكو بل يخلق سابقة خطيرة لدول أخرى قد تسعى لاحقا للحصول على معاملة مماثلة بما يهدد وحدة الموقف الأوروبي علاوة على ذلك فإن الإعفاء الأميركي يمنح المجر قدرة على الاستفادة من الطاقة الروسية بأسعار ميسرة بينما يظل باقي الاتحاد الأوروبي مضطرا للامتثال للقيود والعقوبات ما يؤدي إلى اختلال تنافسي داخل السوق الأوروبية الموحدة هذا الفارق يعزز المخاوف من أن بعض الدول الأعضاء قد تفضل مصالحها الوطنية قصيرة المدى على التزامها الجماعي تجاه السياسة الخارجية للاتحاد وبالتالي يضعف المصداقية الأوروبية على الصعيد الدولي ويجعل من الصعب التوصل إلى إجماع في ملفات حساسة أخرى مثل ميزانية الاتحاد أو الدعم لأوكرانيا ركود النمو وتعثر الاقتصاد ولم تشهد المجر في السنوات الثلاث الأخيرة نموا حقيقيا بل إن الناتج المحلي الإجمالي لم يشهد تقدما يذكر في حين سجلت دول مثل الجمهورية التشيكية نموا حوالي 4 وبولندا 5 ورومانيا 6 ويربط كثير من المحللين هذا التراجع بالمبلغ الكبير الذي جمد من أموال الاتحاد الأوروبي بسبب سياسات أوربان وتقويضه للاستقلال القضائي نحو 18 مليار يورو كانت محتجزة وأضف إلى ذلك تراجع الاستثمار فقد انخفضت الاستثمارات في المجر بنحو الربع مقارنة بما كانت عليه قبل جائحة كورونا بينما زادت في شرق ووسط أوروبا ككل بنسبة 15 وهذا وضع يدا على تنافسية الاقتصاد المجري وجعل الاستهلاك الخاص المحرك الرئيسي للنمو في حين تصدرت الشركات منخفضة الإنتاجية النشاط الاقتصادي ما انعكس سلبا على القدرة التنافسية الإفراط في السياسات الشعبوية ولجأ أوربان إلى سياسات استهلاكية مكثفة منها رفع الحد الأدنى للأجور وزيادات في المعاشات وإعفاءات ضرائبية للأمهات ودعم العقارات الأولى للأسر لكن هذه السياسات رغم دفعة قصيرة الأجل قوضت اقتصاد الإنتاج فالتضخم وصل إلى نحو 25 عام 2022 والعملة المحلية الفورنت ضعفت ما اضطر البنك المركزي لرفع سعر الفائدة إلى ما يقارب 7 لعشر سنوات وهو ما رفع كلفة خدمة الدين وسحب موارد الدولة نحو الفوائد سياسة أوربان القومية المحافظة ليست كفيلة بضمان مجد ذهبي للمجر كما وعد فالتركيز على الاستهلاك دون استثمار وإنتاجية والهجرة المستمرة للكوادر والاعتماد على الطاقة الروسية رغم السياسة الأوروبية الموحدة كلها عوامل تشير إلى أن مستقبل المجر الاقتصادي مهدد بخطر أكبر من مجرد ركود ومع الانتخابات البرلمانية المرتقبة في إبريل نيسان يبدو أن أوربان يواجه اختبارا أكبر من أي وقت مضى هل سيستمر في هيمنته أم أن التحول في الأجيال والمغتربين سيعيد رسم المستقبل