صدى الألم في الكتابة من ثربانتيس إلى أورويل

٧ مشاهدات
قد نختلف على جودة رواية من أخرى أو على أحقية عمل ما بأن يتربع على عرش الأدب لكننا نتفق على أن وراء كل كتاب خالد كاتبا عاش معركته الخاصة مع ذاته أو المرض أو الفقر أو العزلة فما الذي يدفع إنسانا لأن يواصل الكتابة وهو يرى جسده ينهار وواقعه يضيق ما الذي يجعل الحبر يغلب الألم ويجعل من الكلمات فعل نجاة لا ترفا يذهب جورج أورويل في مقالته الشهيرة لماذا أكتب إلى أن الكاتب لا يفهم دون معرفة جذوره لأن كتاباته امتداد لزمنه وتجربته ويصف الكتابة بأنها ضرورة داخلية ودافع قهري يرتبط بالصدق ومواجهة الأكاذيب والكشف الأخلاقي ويحدد أربعة دوافع للكتابة الأنانية والرغبة في الخلود تقدير الجمال ومتعة اللغة والحاجة إلى توثيق الحقيقة ثم الغاية السياسية لتغيير العالم لكنه يعترف بأن الكتابة ليست شغفا بريئا بل نضال فظيع منهك مثل صراع طويل مع مرض مؤلم ما كان لأحد أن يقدم عليه لولا شيطان لا يستطيع مقاومته ولا فهمه ذلك الشيطان هو ما أبقاه حيا وهو يكتب روايته 1984 في جزيرة جورا النائية في إسكتلندا حيث كان يصارع السل الرؤي في أصعب مراحله في بيت رطب معزول بلا كهرباء تقريبا يصل إليه الطعام بالقوارب لكن عزيمته ظلت أقوى من المرض والعزلة كتب الرواية بين نوبات السعال وضيق التنفس وأرسل مخطوطها إلى الناشر وهو لا يعلم إن كان سيعيش ليراها مطبوعة ورحل بعد صدورها بعام واحد وكأن الرواية انتزعت ما تبقى من حياته لتبقى هي على قيدها nbsp قبل أورويل بثلاثة قرون عاش ميغيل دي ثربانتيس حياة شقية وإن اختلفت الأزمنة كتب دون كيخوته بين السجن والمنفى وأسر خمس سنوات في الجزائر ثم عاد إلى إسبانيا ليلقى به في السجن بسبب الديون وهناك في زنزانة ضيقة بدأ كتابة الرواية التي ستعد أول رواية حديثة في التاريخ كانت السخرية طريقته في المقاومة والخيال خلاصه الوحيد من واقع يزداد قسوة وظلما من زنزانته خرج حلم الفارس الحالم الذي يقاتل طواحين الهواء رمزا للإنسان الذي يصر على النبل في عالم فقد اتزانه كتب أورويل رواية 1984 بين نوبات السعال وضيق التنفس nbsp في القرن التاسع عشر واصل فكتور هوغو المعركة نفسها على نحو آخر نفي من فرنسا بسبب مواقفه السياسية فحول منفاه في جزيرة غيرنسي إلى منبر للحرية وهناك كتب البؤساء رواية القرن عن الفقر والعدالة والكرامة وفي مقدمتها دون وصيته الأدبية الخالدة ما دامت الجهالة والبؤس باقيين على هذه الأرض فلن تكون كتب كهذا الكتاب بلا جدوى تحول الألم في منفاه إلى التزام إنساني وصار الأدب عنده وعدا بالعدالة لا بكاء على المظلومين بل نهوضا باسمهم أما تشارلز ديكنز فقد حمل ندوبه منذ الطفولة في الثانية عشرة من عمره سجن والده بسبب الديون واضطر الفتى للعمل في مستودع موبوء بالجرذان لصناعة عبوات ملمع الأحذية لم يدم عمله هناك أكثر من عام لكنه ترك فيه أثرا غائرا شكل وعيه الأدبي والاجتماعي كتب لاحقا عن الفقراء والأطفال المنسيين لأنه كان واحدا منهم في أوليفر تويست وديفيد كوبرفيلد نسمع صدى صبي صغير يكد في المصنع وهو يحلم بأن يكتب يوما عن كل أولئك الذين لم يجدوا صوتا وفي براغ كان كافكا يعيش عزلة من نوع آخر موظف بسيط في شركة تأمين يقضي نهاره بين الملفات وليله بين الأوراق يكتب بعد منتصف الليل في غرفة ضيقة تطل على جدار رمادي هربا من سلطة الأب القاسي تقوقع في عالمه كما لو أنه يتنفس من خلال الكلمات في عالم لا هواء فيه كان يرى الكتابة صلاة مستمرة لكنها أيضا لعنة تستنزف روحه حول نيتشه عزلته الجسدية والنفسية إلى مشروع للتفلسف تلك المعاناة التي رافقت هؤلاء جميعا وغيرهم من الكتاب على مر العصور وجعلت من أدبهم الممزوج بالألم خالدا حتى يومنا هذا تؤكد العلاقة التي تربط الألم والإبداع إذا ما كانت الكلمة هي الوسيط وفي هذا المعنى العميق بين الأدب والألم يأتي ما كتبه الناقد الأسترالي باتريك ويست ليمنح المعاناة بعدا فلسفيا ففي دراسته الصوت الأدبي للألم والمعاناة مجلة الحوارات المزدوجة جامعة ملبورن 2004 يرى أن الألم ليس النقيض للحياة بل هو الشرط الأول لوعيها وأن الأدب هو الوسيط الذي يمنح هذا الوعي شكله الإنساني يستحضر ويست في تحليله شخصية نيتشه كما قدمها الطبيب بروير في رواية عندما بكى نيتشه لإرفين يالوم ويرى أن المعاناة ليست مرضا بل طاقة خلق فكرية أو حسب تعبير نيتشه نفسه محرر الروح الأخير ومعلم الشك الذي يحول كل نعم إلى لا وكل أنا إلى سؤال يرى ويست أن الأدب حين يتناول هذه الحالة لا يكتفي بسردها بل يعيد صياغة الألم في لغة جديدة تجعل من التجربة الفردية نواة لتجربة إنسانية أوسع فكما أن نيتشه حول عزلته الجسدية والنفسية إلى مشروع للتفلسف في معنى القوة والإرادة فإن أي الكاتب يعيد عبر اللغة تشكيل جراحه لتصبح نصا قابلا للمشاركة لا للشفقة ومن هنا يربط ويست بين التحليل النفسي والفلسفة والأدب بوصفها أصواتا متداخلة تسعى جميعها إلى فهم الألم لا إنكاره ويشيد بقدرة الأدب على إعادة اختراع المعاناة بتوسيع أو تضييق الحدود التي تفصل الإنسان عن جرحه فيحول العجز إلى فعل تواصلي واليأس إلى لغة

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2025 أحداث العالم