في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي أصابت سورية خلال العقد الأخير برزت اللهجات السورية إحدى أبرز تجليات الانقسام المجتمعي فلم يعد العنف مقتصرا على السلاح والانتهاكات المادية للحقوق بل تجاوزه إلى اللغة والخطاب اليومي عموما وبات السوريون يفرزون بعضهم بعضا وفق كانتونات لغوية مبنية غالبا على أسس طائفية وعرقية وقومية وباستخدام مفردات اتهامية غزيرة بتفرقتها تحولت اللهجة أداة تميز بين خطاب عام وآخر مهمته تفحص الانتماءات في سردية تعكس عمق الانقسامات التي أفرزتها سنوات من الاقتتال الطائفي الذي يعبر حاليا عن غنى اللهجات وقسوتها في آن حين تصبح دليلا على الضعف أو تعبيرا عن القوة في الأحوال الطبيعية تستخدم اللهجة للتواصل بين الأفراد لكن اللهجات في سورية ومع تصاعد النزاع منذ عام 2011 بدأت تأخذ منحى آخر فاستخدمت لتحديد الانتماءين المناطقي والطائفي من خلال طريقة نطق الشخص بعض الحروف أو استخدامه كلمات معينة لتتحول مع الوقت تعبيرا عن السلطة وأداة تمييز وتصنيف وإقصاء وسببا مباشرا للقتل تواكب لغة النظام السياسي والانتماءات الضيقة لمسؤوليه قبل مرؤوسيه فاللهجة التي كثيرا ما استعان بها بعضهم من مختلف المدن السورية لإظهار السلطة والنفوذ في ظل النظام السابق باتت اليوم تهمة ومصدرا للخوف والقلق يختصر ذلك بيير بورديو في كتابه العنف الرمزي بقوله إن اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل بل هي وسيلة للسيطرة حين تصدر من موقع القوة يبدو أن الانقسام الذي خلفته الحرب في سورية تسلل خلسة أو تعمد إلى اللغة بين طرفي النزاع وولدت مجالا حيويا للكلام السياسي المرمز وباتت اللهجات سلاحا مضافا لجملة الأسلحة المستخدمة فيما بينهما ولم تعد فقط وسيلة للتفاهم والتداول فيما بينهم بل تحولت أداة لتحديد المتهمين والتخوين والإقصاء والتصنيف بين مؤيد ومعارض وأصبحت اللهجة المناطقية عنصرا أساسيا في التفريق والقتل ونعتا يحمل في طياته إهانة مبطنة حينا ومعلنة حينا آخر ومؤشرا على الولاء لسلطة ما حالية أو سابقة فالذي يتحدث لهجة أهل الساحل السوري يتهم بأنه فلول ومن شبيحة النظام السابق أما من يحكي بلهجة أهل السويداء فتهمته جاهزة أيضا حيث يوصم بالخيانة والاحتماء بالعدو والدعوة إلى الانفصال لم تعد اللغة المتداولة فيما بين أبناء البلد الواحد وسيلة للتواصل بل تحولت عنفا مقنعا وساحة حرب تضاف إلى ساحات القتال التي أفرزتها حربهم القبول والدعم الشعبي يشكل عاملا أساسيا في تمدد العنف المبني على أسس دينية وإثنية وعرقية في الحالة السورية أصبحت اللغة كمعنى تقودها اللهجة إما تعبيرا عن ضعف أو للدلالة على قوة فلم تعد طريقة للتفاهم العقلاني كما يراه يورغن هابرماس بل تحولت إلى عنف رمزي من خلال استخدامها فرض الهيمنة والإقصاء ولن تلبث أن تؤدي إلى عنف مادي كالذي حصل في الساحل والسويداء حين أظهرت عديد من الفيديوهات والبوستات على منصات التواصل الاجتماعي دعوات إلى القتل وفق اللهجة التي يتحدث بها الشخص بغض النظر عن أي شيء آخر في الأزمات ولحظات التوتر والغضب تتحول الكلمات إلى أدوات تعبئة طائفية وعرقية وتستخدم كلمات مثل فلول وشبيحة وأيتام الأسد ومليشيات وعملاء لتجريد الآخر من إنسانيته وتبرير العنف ضده في خطاب كهذا لا يفرق بين فرد وجماعة بل يحمل طائفة بأكملها مسؤولية فعل فردي ويشيطنها باعتبارها تهديدا وجوديا لذلك عندما بدأت أحداث السويداء في يوليو تموز الماضي وقبلها في الساحل في مارس آذار الماضي هبت كل العشائر والقبائل العربية ولبت النداء لاعتقادهم أن ما يجري يهدد كيانهم ووجودهم الطائفي والعقائدي ولذلك كان للغة والخطاب المحرض دور أساسي في الدفع بآلاف الأفراد لحماية دولتهم الوليدة وفق زعمهم ولم يكن الإطراء والشكر الذي قوبل به رد فعلها إلا تسامحا وترحيبا بأية فزعات قد تضطر إليها السلطات السورية لاحقا تسامح سوريون عديدون مع مظاهر العنف في السنوات الأخيرة ورحبوا بها تقول باربرا ويتمر في كتابها الأنماط الثقافية للعنف يجسد السلوك العنيف في الممارسات الاجتماعية بوساطة الإطار الثقافي للتوقعات والمقبولية أو بوساطة التسامح تجاه التعبير عن السلوك العنيف وقد تسامح سوريون عديدون مع مظاهر العنف في السنوات الأخيرة ورحبوا بها طالما أنها تحمي وجودهم الطائفي وتعزز السلطة التي وصلت إليهم إذ إن القبول والدعم الشعبي يشكل عاملا أساسيا في تمدد العنف المبني على أسس دينية وإثنية وعرقية وبدونه لا يمكن إضفاء الشرعية على ما قد يحصل من انتهاكات مادية ومعنوية إضافة إلى كثير من عوامل الانقسام بين السوريين ومسبباته تأتي اللهجات لتعكس الانقسامات العميقة فيما بينهم فنحن اليوم أمام صورة حية لما يمكن تسميتها اللهجات القاتلة على غرار الهويات القاتلة التي تحدث عنها أمين معلوف وقد اعتبر في كتاب له بهذا العنوان الهوية محصلة للانتماءات المتنوعة بدلا من حصرها في انتماء واحد وتحويلها أداة للاستعباد وأحيانا أداة للحرب لا سبيل أمام السوريين إلا التماهي مع تنوعهم بما فيها اللهجات العديدة التي يتحدثون بها واعتبارها سمة للغنى لا دافعا للقتل وإعادة اللغة إلى بعدها الإنساني وغايتها الأساسية وتنقيتها وتطهيرها من سموم الحقد والكراهية لعلهم يتمكنون يوما من تجاوز كل هذا الخراب الفكري والاجتماعي والسياسي الذي يعيشون في أفيائه