منذ بدايات القرن الماضي كان واضحا أن كل حركة تحرر تحارب لا بسبب أفكارها بل لأنها تجرؤ على أن تقول لا في وجه المنظومة التي نصبت نفسها حارسا للعالم فرنسا جرمت جبهة التحرير الوطني الجزائرية ووصفتها بالإرهاب وبريطانيا أحرقت قرى كينيا بحجة محاربة التمرد والولايات المتحدة أطاحت حكومات منتخبة لأنها اختارت الاشتراكية على حساب الولاء للرأسمالية تتغير الجغرافيا وتبقى الحجة نفسها من يهدد مصالح الإمبراطورية يصبح خطرا على الأمن الدولي واليوم يعاد إنتاج الخطاب نفسه بلغة محدثة الإرهاب الخطر حق الدفاع عن النفس جمل جاهزة لتبرير المذبحة وإعادة تعريف الضحية جانيا في السابع من أكتوبر تغير ميزان اللغة قبل ميزان القوة تلك اللحظة لم تكن مجرد هجوم أو حدث عسكري بل لحظة كسر للسردية التي حبست المنطقة داخلها عقودا ارتبك العالم ليس لأن الفلسطينيين قاتلوا بل لأنهم خرجوا عن النص المرسوم لهم أن يبقوا ضحايا فقط منذ ذلك اليوم لم تعد القضية تقاس بعدد الصواريخ بل بمدى قدرتها على فضح النفاق العالمي الأسلحة التي يستخدمها الغرب في مواجهة حركات التحرر لم تتغير فقط تطورت أدواتها الوصم بالإرهاب ما زال السلاح الأنجع لتبرير القمع والاغتيال الجوي صار أكثر دقة وأقل كلفة بينما الحصار والتجويع ما زالا السياسة المفضلة لإخضاع الشعوب من المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا وصولا إلى حماس كانت التهمة واحدة تهديد الأمن والنتيجة واحدة أيضا مصادرة الشرعية وقطع الأوكسجين السياسي عن أي صوت يرفض الخضوع الإعلام لم يتغير هو الآخر كان يبرر بالأمس التعذيب في المستعمرات ويبرر اليوم القصف في غزة الفارق الوحيد أن الأكاذيب باتت أكثر وضوحا وأن الصور التي حاولوا طمسها صارت تصل إلى العالم في اللحظة نفسها التي يضغط فيها القاتل على الزناد الأسلحة التي يستخدمها الغرب في مواجهة حركات التحرر لم تتغير فقط تطورت أدواتها العقاب الجماعي ليس جديدا من القرى الجزائرية التي أحرقت في الخمسينيات إلى معسكرات السود في جنوب أفريقيا وصولا إلى الحصار المستمر على غزة كانت الغاية دائما واحدة كسر إرادة الناس وتجويعهم حتى يكرهوا من يقاوم باسمهم لكن الشعوب في كل مرة كانت تصمد أكثر مما تتوقع القوى التي تظن نفسها خالدة العالم تغير لكن الظلم لم يختف بل تعلم كيف يتأقلم في زمن الحرب الباردة كانت الأرض مقسومة بين معسكرين شرقي وغربي وكان من يرفض الغرب يجد في الاتحاد السوفييتي مظلة تحميه أما اليوم فالعالم أحادي القطب والولايات المتحدة تمسك بمفاتيح السياسة والإعلام والمال وتفرض معاييرها على الجميع حتى وسائل التواصل التي ظنها الناس فسحة للصوت الآخر تحولت إلى ساحة حرب رقمية تدار بخوارزميات الحجب والتقييد وحذف الشهود من الذاكرة كل شيء صار أكثر أناقة في شكله وأشد قسوة في جوهره تغيرت الأدوات لكن الفكرة واحدة أن تروى الحكاية كما يريد الأقوياء لا كما حدثت الحرب على حماس ليست حربا على فصيل أو تيار بل على فكرة التحرر نفسها إنها امتداد لكل محاولة لإسكات من يطالب بكرامة الإنسان وتحرير الأوطان أيا كان اسمه أو رايته بالأمس حورب اليسار والاشتراكيون والقوميون واليوم يحاصر الإسلاميون المنطق واحد من يخرج عن الطاعة يسحق ومن يرفض الاصطفاف خلف القوة يلغى ما يجمع بين حماس وكل حركات التحرر التي سبقتها ليس الأيديولوجيا بل الضمير الإنساني نقسه أن تقف في صف المقهور وتدفع ثمن قولك لا العالم تغير لكن الظلم لم يختف بل تعلم كيف يتأقلم إلى اليساري الذي يرى الدين رجعية نقول إن الذين يحاصرون حماس اليوم هم أنفسهم من حاربوا الثورات اليسارية بالأمس وإلى الإسلامي الذي يظن أن العدالة حكر على العقيدة نقول إن الحرية لا تختصر في راية ولا تختزل في مذهب والليبرالي الذي يعتقد أن الحرية تمنح من واشنطن نقول له إن الحرية تنتزع لا تستورد وإلى القومي والاشتراكي بل وحتى الملحد الذي ما زال يؤمن بكرامة الإنسان نقول له إن القضية ليست مسألة إيمان أو فكر بل موقف من الظلم ما يجب ألا نكرره هو الصمت الذي قتل فيتنام وشرعن التعذيب في الجزائر وبرر حصار كوبا علينا ألا نعيد خطيئة المثقفين الذين وصفوا مانديلا بالإرهابي ثم اعتذروا بعد موته وألا نبرر قتل المدنيين لأنهم من الجانب الخطأ ولا نغض الطرف عن حصار الأطفال لأن الحصار يروق لحلفائنا لم يعد الأخضر لونا فلسطينيا فحسب بل صار رمزا عالميا جديدا في سجل حركات التحرر فاللون الذي ظنوه قابلا للمحو عاد ليغطي الشاشات والضمائر يربط بين جبال الأنديز ووديان الجنوب الأفريقي وشوارع غزة المدمرة والمحاصرة صار الأخضر راية كل من آمن أن مقاومة الظلم ليست خيارا دينيا أو سياسيا بل فطرة إنسانية لا تموت الحرب على حماس ليست حربا على فصيل أو تيار بل على فكرة التحرر نفسها واليوم بدأ الوعي الغربي يتصدع أمام كذبة التحضر التي تغطي المجازر وصار كثيرون يعترفون أن حماس مهما اختلفوا معها فكريا تمثل اليوم آخر تجسيد حي لفكرة التحرر التي حوربت في كل زمن أما عربيا فرغم الوجع الذي لامسناه خلال العامين ورغم انكشاف الحقيقة كالشمس ما زال كثيرون مصرين على تبرئة القاتل ولوم الضحية إعلامنا العظيم لم ينتظر طويلا بعد تطبيق وقف إطلاق النار الذي قد ينهار في أية لحظة حتى وضع السكين على رقبة الضحية وسأل ببرود ماذا حققتم منذ السابع من أكتوبر سؤال لا يجرؤ الاحتلال نفسه على طرحه لكن التاريخ لا يكتب بأصوات الحكام ولا أبواق الإعلام بل بخط الشعوب وهؤلاء باتوا يرون الحقيقة بأعينهم الأخضر لم يعد علما مرفوعا فوق غزة فقط بل اخترق شوارع العالم أجمع