مقاربة فلسفية في نشأة السلطة

١٠ مشاهدات
ما الدولة أهي ثمرة حاجة إنسانية إلى التنظيم والأمن أم حصيلة تاريخ طويل من الصراع على السلطة والمعنى وكيف انتقلت من رابطة أولى نشأت لحماية الجماعة وضبط علاقات العيش المشترك إلى كيان مركزي يحتكر العنف والقرار ويعيد إنتاج الشرعية باسم القانون والنظام ثم هل تمثل الدولة تعبيرا عن الإرادة العامة التي تتجسد فيها الحرية الجماعية أم بنية تاريخية تشكلت عبر القهر والتفاوت وإدارة الخضوع ومن داخل هذا التوتر العميق يبرز سؤال العقد الاجتماعي بوصفه لحظة تأسيسية من الذي يخدم الآخر داخل هذا البناء السياسي الدولة التي وجدت لتنظيم حياة المواطنين أم المواطن الذي جرى تحويله إلى مورد للشرعية والطاعة وكيف أمكن للفلسفة عبر تاريخها الطويل أن تفكك هذا الكيان الملتبس فتتعامل مع الدولة في آن واحد بوصفها فكرة معيارية تبحث في العدل والحرية ومؤسسة تاريخية تمارس السلطة وتحتكر العنف وخبرة معيشة يومية تتجسد في القانون والطاعة والمقاومة إن طرح هذه الأسئلة لا يشكل مدخلا نظريا فحسب بل يكشف عن جوهر الإشكال السياسي ذاته إذ تتقاطع الأخلاق بالقوة والحق بالتاريخ والإنسان بالمؤسسة التي تدعي تمثيله منذ البدايات الأولى للفكر الفلسفي ارتبط سؤال الدولة بسؤال الإنسان عن العدل والنظام والمعنى فقد عبر أفلاطون في كتاب الجمهورية عن هذا الارتباط حين رأى أن الدولة انعكاس للنفس الإنسانية بقوله الدولة صورة مكبرة للنفس البشرية يكشف هذا التصور أن التنظيم السياسي امتداد مباشر لبنية القيم والمعرفة داخل المجتمع وأن اختلال الدولة يعكس خللا أخلاقيا ومعرفيا أعمق في بنية المجتمع إن الدولة في التصور الأفلاطوني ليست سوى فضاء تربوي ومعياري تتشكل داخله العدالة بوصفها انسجاما بين مراتب النفس وطبقات المجتمع ومع أرسطو يتخذ مفهوم الدولة بعدا طبيعيا وتاريخيا أكثر رسوخا إذ يؤكد في كتاب السياسة أن الدولة موجودة بالطبيعة والإنسان حيوان مدني بالطبع هذا التعريف يضع الدولة في صميم الكينونة الإنسانية إذ لا يتحقق اكتمال الإنسان خارج الاجتماع السياسي وهكذا تمثل الدولة المجال الذي تنتقل فيه الحياة من مستوى الضرورة إلى أفق الفضيلة ومن البقاء إلى العيش الكريم وبهذا المعنى تصبح الدولة شرطا للإنسانية الكاملة وليست قيدا مفروضا عليها الدولة فكرة تاريخية متحولة تتشكل عند تقاطع القوة والشرعية والمعنى غير أن التحول الحاسم في مفهوم الدولة جاء مع عصر التنوير الأوروبي حينما أعيد التفكير في السياسة انطلاقا من الخوف والعنف والحرب الأهلية فقد صاغ توماس هوبز في كتاب اللفياثان تصورا للدولة بوصفها استجابة عقلانية لفوضى حالة الطبيعة فقد قال في حالة الطبيعة تكون حياة الإنسان منعزلة فقيرة قذرة وحشية وقصيرة ووفق هذا التصور فالدولة ما هي إلا نتيجة تعاقد يتنازل فيه الأفراد عن جزء من حريتهم لصالح سلطة سيادية تضمن الأمن والاستقرار والسيادة هنا تقوم على احتكار القوة باسم السلم الاجتماعي ويغدو الخوف والقوة أو العنف الشرعي أساس الطاعة السياسية هذا التحول يعكس انتقال الدولة من أفق الفضيلة إلى أفق الضبط ومن فكرة الخير المشترك إلى منطق النظام وقد عمق ماكس فيبر هذا التحليل حينما عرف الدولة في محاضرته السياسة بوصفها حرفة بقوله الدولة هي الجماعة البشرية التي تحتكر الاستخدام المشروع للعنف داخل نطاق إقليمي معين هذا التعريف يضع العنف الشرعي في قلب مفهوم الدولة لا بوصفه انحرافا وإنما بوصفه أساسا قانونيا للشرعية وهكذا تغدو الدولة في هذا السياق جهازا إداريا وقانونيا ينتج الطاعة عبر أشكال متعددة من الشرعية في المقابل حاول هيغل إعادة الاعتبار للبعد العقلي والأخلاقي للدولة ففي كتاب مبادئ فلسفة الحق كتب الدولة هي مسيرة العقل في العالم أي إن الدولة هي تجسيد للعقل الموضوعي ولحظة تاريخية يتصالح فيها الفرد مع الكل وتتحقق فيها الحرية عبر القانون غير أن هذا التصور المثالي تعرض لنقد جذري من كارل ماركس الذي رأى أن الدولة تعكس بنية الصراع الطبقي ونقد فلسفة الحق عند هيغل إذ يقول الدولة الحديثة ليست سوى لجنة لإدارة الشؤون المشتركة للبرجوازية ووفق هذا التحليل فالدولة ما هي إلا أداة لإعادة إنتاج الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية وتغدو الشرعية غطاء تاريخيا لمصالح مادية محددة للطبقة البورجوازية على حساب طبقة البروليتاريا ومع القرن العشرين اتخذ سؤال الدولة طابعا أكثر قتامة خاصة مع صعود الأنظمة الشمولية وأزمة الديمقراطيات الغربية فقد نبهت حنة آرندت في كتاب أصول الشمولية إلى خطر تحول الدولة إلى آلة تدمير للإنسان حينما تنفصل السلطة عن الأخلاق والمسؤولية ويتحول القانون إلى أداة طاعة عمياء بيد نخبة فاسدة وفي هذا الإطار تفقد الدولة بعدها الإنساني وتتحول إلى بنية إدارية تنتج العنف باسم النظام وتفرغ السياسة من بعدها الأخلاقي عندما يغيب التفكير النقدي تفقد الدولة بعدها المعياري وتتحول إلى بنية مغلقة تعيد إنتاج ذاتها باسم الاستقرار والنظام داخل هذا المسار التاريخي والفلسفي يبرز سؤال العقد الاجتماعي بوصفه لحظة مفصلية لفهم العلاقة بين الدولة والمواطن من الذي يخدم الآخر يقدم جان جاك روسو في كتاب العقد الاجتماعي تصورا معياريا واضحا حين يقول الغاية من كل تشريع هي الحرية والمساواة وفق هذا التصور فالدولة تنبثق من الإرادة العامة الإرادة الشعبية وتوجد لخدمة المواطنين عبر ضمان مشاركتهم وحريتهم إذ إن المواطن لا يتنازل عن حريته إنما يعيد صياغتها في أفق جماعي أخلاقي غير أن هذه الرؤية المعيارية المثالية تصطدم بالواقع التاريخي فقد ربط جون لوك في كتاب مقالتان في الحكم المدني العقد الاجتماعي بحماية الحقوق الطبيعية حيث كتب الغاية الكبرى التي من أجلها يتحد الناس في مجتمعات ويخضعون أنفسهم للحكومة هي الحفاظ على ممتلكاتهم وبهذا فالدولة هنا تخدم المواطن من حيث المبدأ غير أن هذه الخدمة تظل مشروطة بحماية مصالح محددة ما يفتح المجال أمام انزياحات بنيوية في وظيفة الدولة أما عند هوبز فإن العلاقة تتأسس على الطاعة مقابل الأمن إذ إن المواطن يخدم الدولة عبر الامتثال والدولة تخدم المواطن عبر منع الفوضى غير أن هذا التوازن يقوم على الخوف لا على الحرية ما يجعل الدولة أقل خضوعا للمساءلة الأخلاقية وقد كشف ميشيل فوكو في كتاب المراقبة والمعاقبة كيف تحولت الدولة الحديثة إلى جهاز ينتج الطاعة عبر تقنيات الضبط والمراقبة حيث يصبح المواطن موضوعا للحكم قبل أن يكون شريكا فيه وهكذا يتبين أن الدولة فكرة تاريخية متحولة تتشكل عند تقاطع القوة والشرعية والمعنى كما أن الدولة وجدت لخدمة الإنسان وضمان كرامته وتنظيم حريته لكنها كثيرا ما تحولت إلى بنية تطالب المواطن بالخدمة باسم الاستقرار والنظام وبين المبدأ والواقع يتحدد المعنى الأخلاقي للدولة بقدرتها على الوفاء بوعدها التأسيسي الدستوري العقد الاجتماعي في الأخير إن التفكير الفلسفي في الدولة يظل ضرورة معرفية وأخلاقية لأن الدولة تمس أعمق أسئلة الوجود الإنساني الحرية الطاعة العدل الحرية والكرامة وعندما يغيب هذا التفكير النقدي تفقد الدولة بعدها المعياري وتتحول إلى بنية مغلقة تعيد إنتاج ذاتها باسم الاستقرار والنظام وتستبدل الإرادة المشتركة بآليات الضبط والمشاركة بالخضوع والمسؤولية بالطاعة العمياء في هذا الأفق تنفصل السلطة عن غايتها الأخلاقية ويتحول القانون من تعبير عن الإرادة العامة إلى أداة إكراه فتغدو الدولة قوة صماء تدار بمنطق البقاء وتطالب الإنسان بالامتثال بدل أن تنبثق من حريته وتخدم استمرارها بدل أن تحمي كرامته وتمنح لمعنى العيش المشترك أفقه الإنساني

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2025 أحداث العالم