قبل عام فر بشار الأسد من سورية تهاوت أركان حكمه العصبوي الأمنية والعسكرية وانحل الجزء الأكبر من شبكة علاقات السلطة بالمال المسيرة لموارد البلاد والموجهة للإدراك العام Perception Management عبر التحكم بالمروية وبالصورة بعيدا عن الواقع على الأرض كانت رعاية الثقافة والفنون خصوصا الموسيقى من أدوات توجيه الإدراك العام وقد سبق للمسرحي والباحث زياد عدوان أن أشار إلى الدور المنوط بها منذ انقلاب حزب البعث سنة 1963 في إبراز الوجه الحضاري للدولة العلمانية الحديثة التي بويع الأسد الأب بانيا لها والتي سيتبين رجعيا أنها من نسخها الأكثر رداءة وفسادا ووحشية ترافق دخول المعارضة المسلحة دمشق في 7 ديسمبر كانون الأول مع القلق على مصير الثقافة منشؤه العقيدة الإسلاموية للعديد من الفصائل ونذر تكرار سيناريو تحريم طالبان الموسيقى وتحطيم الآلات في أرجاء أفغانستان منذ سيطرتها على العاصمة كابول عشية انسحاب القوات الأميركية منها سنة 2021 لم يحدث ذلك منهجيا على الأقل جمد العمل في دار الأوبرا بدمشق لحين العودة النسبية للأمن وتراتب أوليات الحوكمة والميزانية وبعد تعيين وزير للثقافة أعلن عن جدول رسمي للعروض ألغي بسبب أحداث العنف المروعة في السويداء وأخيرا استأنفت الأوبرا النشاط بمختلف أنواعه وبوتيرة شبه طبيعية عاد القلق مجددا إثر الجدل حول إلغاء محافظ حمص لأحد عروض الموسيقي السوري الأميركي مالك جندلي كان من المقرر إحياؤه في الهواء الطلق بميدان الساعة احتفالا بـذكرى النصر برفقة الفرقة الوطنية السيمفونية السورية وقائد أوركسترا زائر من الولايات المتحدة على أن يكتفى بحفلين في قاعة المركز الثقافي للمدينة ودار الأوبرا في العاصمة على الرغم من الردود المتبادلة بين جندلي وكل من وزارة الثقافة ومحافظة حمص التي احتلت منصات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على شكل رشقات من التصريحات والتوضيحات المكسوة بالدبلوماسية وسعي متبادل إلى الحفاظ على شعرة معاوية لا تزال الدوافع خلف إلغاء الحفل مفتوحة على التأويلات في ضوء نجاح السلطة خلال ذكرى النصر في تأمين الفعاليات الجماهيرية التي نظمت في العراء وفي العديد من المحافظات والبلدات والقرى لم يعد تبرير المحافظ بعجزه عن توفير الأمن لحفل موسيقي في ميدان الساعة كافيا لتفسير إلغائه فضلا عن تداول تعليق منسوب إلى مفتي المدينة بأن عزف الموسيقى لا يليق بتكريم أرواح الشهداء يشي بأن قرار المحافظ قد حظي بتأييد بعضهم لو أذعن لقرار إلغاء حفل الهواء الطلق والاكتفاء بالبقية لأمكن تقصي جهة ما في أي من مناسيب هرم الحكم لا تريد مطلقا أن تكون الموسيقى من مظاهر الحياة العامة في البلد وبالتالي ستمضي قدما جهة عرقلة سير جدول الحفلات بأكمله موقف الفنان الصفري Zero sum المتمسك بالعزف وسط الميدان أو الانسحاب مرتبط بعلامته Brand ومشروعه nbsp مثله مثل غي مانوكيان وإياد الريماوي تندرج عروض مالك جندلي ضمن فئة الموسيقى الكلاسيكية الفعالية Eventized classical إذ مشهدية الحشود والتفاعل الجماهيري مكون أساسي من المنتج وليس ناتجا ثانويا Byproduct لعل خلافا إذا قد طرأ حول من وما الذي يستأثر بالمروية وبالصورة التي تحتفل حمص بها بتحررها من الاستبداد في حين يعتبر جندلي أنه اصطف إلى جانب الانتفاضة منذ انطلاقتها وتماهى معها فنيا وثبت على رهانه بانتصارها فيحق له بذلك أن يتصدر الاحتفال الجماهيري يرى حماصنة ومن يمثلهم أو يستجيب لهم من أصحاب القرار أنه لا هو ولا موسيقاه يعكسان بأصالة هوية المدينة الجديدة بعد التحرير كما يحدث عقب كل تغير جذري يخشى أن ينظر تعسفيا إلى كل ما تخلل الوجه الحضاري في السابق على أنه من مخلفات العهد البائد ولا سيما أن الشريحة الاجتماعية الأكبر الأكثر محافظة والتي تحمل مظلومية تغييبها عن الوجه الحضاري للدولة الحديثة ترى اليوم بأنه صار لها الغلبة في إنشاء الصورة والمروية والتحكم بالإدراك العام وفق عقيدتها وتقاليدها نشطت الحياة الموسيقية السورية في الماضي داخل نطق مجتمعية ضيقة نسبيا ضمت نخب الطبقة الوسطى وما فوقها في المدن أو في تلك الأرياف المكونة من الهويات الصغرى الأقل تزمتا فيما لم يحسم الجدل الفقهي في الإسلام بمختلف مذاهبه حول المعازف وإن مال أغلبها إلى نبذها ما عدا بعض الطرق الصوفية أقبل المسلمون في العصور الوسطى على السماع خارج إطار الدين وتأثرا بالمنظومة الفكرية والمعرفية اليونانية ثم بفعل التحديث المتوثب غربا الذي أطلقه محمد علي في مصر والسلطان العثماني محمود الثاني منتصف القرن التاسع عشر يمكن اعتبار سقوط الاستبداد الأسدي بمثابة انتهاء صلاحية Expire date لتجربة الدولة الحديثة في الشام وفق سيرورتها الممسوخة منذ الإصلاحات المصرية والعثمانية لتعيش المنطقة اليوم انتقالا حضاريا وجيوسياسيا Interregnum تشهد المفاهيم بموجبه دورة موت وولادة وبعث يصعب معها تلمس ماهية الأشكال التي ستنبثق وتتبلور سواء لطبيعة الكيانات السياسية وحدودها أو أهواء مجتمعاتها وأنماط الحكم فيها في بلد مجزأ ومدمر معدم اقتصاده ومهجر شعبه لا ينتظر أن تشغل الموسيقى أيا من درجات سلم الأوليات في المقابل لا يوجد ما يشير حتى الآن إلى أن ثمة أجندة ثورة ثقافية تهدف إلى حظرها ما زالت الحفلات تقام على مدار الشهر وفي عموم البلاد وإن ظل معظمها مستترا داخل النطق المجتمعية والطبقية ذاتها قبل فرار الأسد مع بعض الانكشافات الجماهيرية النادرة خارجها كإحياء الفعاليات الاحتفالية ورفد نشاطات المنظمات غير الحكومية الموجهة للتنمية والإعانة الإنسانية وإعادة الإعمار تبدو السلطة كمن يحاول الملاحة في بحر يموج بالتناقضات فالتشدد الديني لم يتمدد فقط ضمن الفصائل التي أدمجت في نواة مؤسستها الأمنية والعسكرية وتمذهبت زمن الحرب على عصبوية مضادة لعصبوية الاستبداد بل أيضا لدى فئة واسعة أصبحت تتوق إلى هوية ماضوية تعود بها إلى ما قبل الدولة الحديثة لذا تنشأ الصورة والمروية المتحكمة بالإدراك العام تماشيا مع روح العصر Zeitgeist المفعمة بالهوياتية Identity Politics والخطاب الشعبوي المستمد شرعيته من الاستجابة لمظلومية الجموع بهذا ثمة نزعة مؤسساتية لجهة تعزيز الهوية المحلية على طريقة حزب العدالة والتنمية في تركيا بوصفها ائتلاف الانتماءين الإسلامي والسوري على حساب الهويات الأشمل كالقومية العربية والعالمية وحتى الإسلاموية العابرة للحدود فحين أعلنت وزارة الثقافة شروطا لمسابقة إحداث نشيد وطني جديد تراجعت عنها لاحقا وصفت راست وحجاز بالمقامات السورية والمتعارف عليه أنها شرقية أو عربية كما أن الحفلات التي يكلف بإحيائها ذات طابع تراثي سواء لجهة الأغاني والمقطوعات أو تشكيلات الآلات من جهة أخرى ومنذ دخولها دمشق سارعت السلطة بالانتساب إلى تجربة عصرنة تخلف التحديث المصري العثماني وحقبة الاستعمار وما بعده تقودها اليوم دول الخليج العربي وعلى رأسها السعودية تقوم على تطبيق هندسة معكوسة Reverse Engineering للمجتمع بهدف جعله قابلا لتجاور Juxtaposition كل من الإسلام والليبرالية لذا وفيما تستعد الألفية لوداع ربعها الأول الذي شهد ولادة ثلاث فرق سيمفونية في كل من الدوحة والرياض وأبوظبي وتشييد دور أوبرا بهية وإطلاق مهرجانات فنية تستضيف عروضا من مختلف الألوان الموسيقية قد بات من الصعب تصور دمشق من دون وجه حضاري عصري متسق مع المسار العام للإقليم عساه ألا يمسي قناعا وأن يكون أكثر انسجاما مع الواقع على الأرض وفي الوقت ذاته أعم تمثيلا لجميع السوريات والسوريين وإلا فإنه يخشى أن تتحول المنطقة إلى ثقب حضاري أسود قد يبتلع العالم بأسره