من الصعب بل من غير المنصف عدم الإشادة بالمستوى الفني والإعلامي واللوجستي والحضاري الرفيع الذي قدمته دولة قطر في دورة كأس العرب لكرة القدم أخيرا ما شهدناه في الدوحة لم يكن مجرد تنظيم جيد بل نموذجا متكاملا في التسهيلات وجودة الملاعب والانسيابية التنظيمية وحفاوة الاستقبال والأهم حجم الجمهور العربي غير المسبوق الذي حضر من مختلف الدول العربية شخصيا لا أذكر أن هذه البطولة حظيت في أي نسخة سابقة بهذا القدر من الاهتمام الشعبي العربي سواء على مستوى التفاعل الإعلامي أو الحضور الجماهيري المباشر بدا وكأن البطولة أعادت اكتشاف حاجة العرب إلى مساحة مشتركة آمنة مفرحة يتقاسمون فيها لحظة عابرة للحدود والسياسة لكن هذا النجاح الرياضي لا يمكن فصله عن سياق أوسع سياسي وثقافي تلعب فيه قطر اليوم دورا استثنائيا في الإقليم وللأمانة فإن الدور القطري خصوصا على الصعيد الإعلامي بات مادة تدرس وتحلل الإعلام القطري وفي القلب منه الجزيرة والتلفزيون العربي لم يعد مجرد ناقل للخبر بل أصبح فاعلا سياسيا وأخلاقيا في القضايا العربية وليس من المبالغة القول إن هذا الإعلام كان لاعبا أساسيا في حرب الإبادة على غزة في نقل الصورة وكشف حجم الإبادة ومواجهة الرواية الإسرائيلية المدعومة غربيا وربما لهذا السبب تحديدا شاهدنا الاستهداف المباشر والمتعمد لمراسلي الجزيرة ومحاولات قتل الشهود لإخفاء الحقيقة في سلوك يعكس إدراك الاحتلال أن معركة الوعي لا تقل خطورة عن معركة السلاح لا ينفصل هذا الدور الإعلامي عن سياسة قطر الإقليمية في التعامل مع الأزمات العربية والإسلامية فمنذ اندلاع الأزمة السورية كانت قطر الدولة العربية الوحيدة تقريبا التي أصرت على موقفها من النظام السوري السابق ودعمت المعارضة ورفضت الانخراط في موجة التطبيع معه واليوم نراها حاضرة في دعم المسار السياسي والدبلوماسي للنظام الجديد هناك وفي ملف غزة لعبت دورا مركزيا في محاولات الوصول إلى وقف إطلاق نار وفي إدارة قنوات تواصل شديدة الحساسية وفي أفغانستان كما في غزة اجترحت قطر نموذجا فريدا لدور الوسيط الدبلوماسي منحها مكانة إقليمية ودولية وسمعة سياسية يصعب تجاهلها هذا النموذج القطري بملامحه العروبية والإسلامية يفتح الباب أمام سؤال أعمق هل يمكن لمثل هذا الدور أن يشكل رافعة لإعادة التفكير في فكرة قومية عربية إسلامية جديدة شعر كثيرون خلال السنوات الماضية أن القومية العربية قد انتهت وأنه لم يعد هناك ما يجمع العرب سياسيا ويبدو هذا التشخيص صحيحا جزئيا إذا نظرنا إلى انشغال معظم الدول العربية بأزماتها الداخلية وتراجع القضايا المركزية وتآكل مفهوم المصالح العربية المشتركة بل إننا اليوم أمام أنظمة إقليمية متعددة داخل العالم العربي نفسه نظام شرق أوسطي أصبحت فيه تركيا وإيران لاعبين رئيسيين مع تراجع دور الدول العربية المركزية ومحاولة إسرائيل فرض هيمنة أمنية وعسكرية إقليمية وإلى جانب ذلك سادت فترة ولا تزال مدرسة سياسية تفصل بين أمن الخليج وأمن الشرق الأوسط بالرغم من ذلك كله ومما تشهده المنطقة من كوارث سياسية وتفكك دول وتدمير للهويات الوطنية واستدعاء للهويات الفرعية الطائفية والعرقية والدينية التي تعود إلى ما قبل الدولة ثمة مؤشرات لا تخطئها العين على أن ما يجمع الشعوب العربية أعمق مما يفرقها صحيح أن الفكرة القومية بصيغتها الكلاسيكية البعثية أو الناصرية تراجعت وتآكلت وربما فشلت في تقديم نموذج قابل للحياة لكن تراجع هذه الصيغ لا يعني نهاية الفكرة القومية نفسها بوصفها مشاعر وهوية ومصالح وثقافة ولغة وتاريخا مشتركا لعل هذا كله يضع مسؤولية مضاعفة على نخب الفكر والسياسة في العالم العربي المطلوب ليس استعادة القومية بصيغتها القديمة ولا إنتاج شعارات رومانسية جديدة بل مراجعة معمقة للفكرة القومية الإسلامية وإعادة تشكيلها على أسس عقلانية وواقعية تعترف بالتعدد وتحترم الدولة الوطنية وتبني على المصالح المشتركة وتعيد الألق إلى فكرة العروبة بوصفها إطارا ثقافيا وسياسيا جامعا لا أداة إقصاء أو صراع في زمن يشعر فيه جيل الشباب العربي بالضياع والاغتراب السياسي تبدو مثل هذه اللحظات كأس العرب غزة الإعلام الدبلوماسية بمثابة تذكير مؤلم وجميل في آن أن شيئا ما لا يزال ممكنا وأن ما يجمع العرب لم يمت لكنه ينتظر من يلتقطه ويفكر فيه من جديد بعقل بارد وقلب حي