اغتيال المهدي بن بركة الرواية الكاملة لأشهر جريمة سياسية في المغرب
٥٦ مشاهدة
في كتابهما الجديد قضية بن بركة نهاية الأسرار يقدم ستيفن سميث ورونين بيرغمان عملا استقصائيا غير مألوف في عمقه واتساع مصادره عن واحدة من أكثر الجرائم السياسية استعصاء على الكشف منذ ستة عقود معتمدا على مزيج نادر من الوثائق السرية والشهادات الاستخباراتية التي خرجت إلى الضوء بعد عقود من الصمت يجتمع في هذا العمل صوتان صحافيان من ثقافتين وخبرتين مختلفتين سميث أحد أبرز المتخصصين في الشؤون الأفريقية في صحيفتي ليبراسيون ولوموند الفرنسيتين وبيرغمان الصحافي الاستقصائي الإسرائيلي في نيويورك تايمز والمختص في تاريخ عمليات الموساد ويمتزج هذان الصوتان في سرد يتجاوز إعادة فتح ملف المهدي بن بركة 1920 1965 أشهر معارض سياسي يساري لحكم نظام الملك المغربي الراحل الحسن الثاني 1929 1999 ليعيد تركيب زمن سياسي كامل ويرسم خريطة سرية لعلاقات ثلاث دول المغرب وفرنسا وإسرائيل في لحظة عالمية مضطربة تتقاطع فيها الحرب الباردة مع حركات التحرر وصراعات ما بعد الاستعمار اليوم الأخير في حياة بن بركة ما يميز هذا الكتاب ليس فقط حجم مادته بل قدرته على تجميع أرشيف موزع بين ثلاث دول وإعادة تركيبه في سرد واحد مكثف يكشف أدوار مخابرات الدول الثلاث التي اتفقت على تنفيذ جريمة بشعة بكل تعقيداتها السياسية والأمنية ويضيء مناطق ظلت لعقود بلا رواية مكتملة وفي قلب هذا البناء السردي يخصص الكاتبان جزءا كبيرا منه لإعادة تشكيل اليوم الأخير في حياة الرجل يوم 29 أكتوبر 1965 يوم اختفى بن بركة في باريس وإلى الأبد يبدأ المشهد في المطار حين غادر المعارض المغربي طائرة سويس إير القادمة من جنيف متجها إلى سلسلة من اللقاءات المهنية والشخصية ثم إلى شارع سان جيرمان حيث كان يعتقد أنه سيلتقي فريقه في مشروع الفيلم الذي كان سيكون بطله بعنوان Basta كفى لكن ما بدا ترتيبا لموعد انتاج سينمائي لم يكن سوى فخ محكم النسج للإيقاع بالرجل ومع أنه كان يعلم أنه مراقب فإن السرد يرسم رجلا يسير بخطوات الواثق وسط عاصمة يعرف دهاليزها ومقاهيها قبل أن يوقفه شرطيان بلباس مدني أمام مطعم ليب لم يتردد ورافقهما بهدوء معتقدا أن الأمر يتعلق بلقاء سياسي مع شخصية سياسية فرنسية مهمة تريد التحدث إليه يعتقد أنه الرئيس الفرنسي آنذاك الجنرال شارل دوغول الذي كان يرى في حركة عدم الانحياز التي بدأت تتبلور في دول العالم الثالث حليفا موضوعيا له ضد حلفي وارسو والناتو nbsp يقدم الكاتبان عملا استقصائيا فريدا في عمقه واتساع مصادره من هنا ينفتح المشهد على سلسلة الاختفاء تتوالى بعدها الطبقات الزمنية بسرعة سيارة سوداء تنطلق بسرعة جنونية جنوبا في شوارع باريس فيلا معزولة في منطقة فونتني لو فيكونت بضواحي العاصمة الفرنسية وداخل السيارة تتغير لهجة المرافقين وسلوكهما لينتهي المطاف بـ المختطف داخل سراديب الفيلا حيث يخضع لاستجواب عنيف وقاس انتهى بإغراق الضحية داخل حوض الاستحمام ثم لحظة اختفاء نهائي مازال الغموض يلف تفاصيلها الدقيقة حتى بعد ستين عاما هل كانت الوفاة نتيجة التعذيب أم كان القرار بالقتل مبيتا في كلتا الحالتين يشرح الكتاب كيف تلاشى الجسد من الوجود بطريقة تحول إلى جزء من أسطورة القضية نفسها وكيف أغلقت القصة على نفسها كما لو كانت تريد أن تنسجم مع قدر ملفها المراوغ منذ البداية رأس بن بركة مقابل تسجيلات القمة العربية لكن السرد الروائي للأيام الأخيرة ليس سوى مدخل ضروري لرواية أعقد تمتد جذورها إلى عام 1964 حين بدأ مسار التصعيد بين أستاذ الرياضيات السابق المهدي بن بركة وتلميذه السابق الحسن الثاني يبلغ نقطة الانفجار يكشف الكتاب لأول مرة بصورة موثقة أن قرار التخلص من بن بركة اتخذ في الرباط قبل عام من اختطافه بعد أن علم الملك الحسن الثاني بمحاولاته نسج علاقات مع السوفييت ودوائر حركة عدم الانحياز وفي الوقت الذي كانت فرنسا مترددة في تقديم المساعدة لـتحييد معارض المملكة الأول لجأت الرباط إلى شريكها السري إسرائيل فالعلاقات بين الطرفين كانت ضاربة في العمق منذ بداية الستينيات على خلفية ملف تهجير اليهود المغاربة وتنظيم قنوات سرية بين الرباط وتل أبيب وكان الجنرال محمد أوفقير وزير داخلية المغرب في تلك الفترة ونائبه أحمد الدليمي قد نسجا صلات قوية مع رئيس الموساد مائير أميت ويظهر الكتاب أن المغرب رأى في إسرائيل حليفا يقدم خدمات استخباراتية دقيقة بينما رأت إسرائيل في المغرب بوابة استراتيجية ضمن توازنات الشرق الأوسط وأفريقيا تكشف الوثائق الإسرائيلية التي خرجت من الأرشيف أن أميت كان مترددا في التورط في المشاركة في اغتيال سياسي لصالح دولة أخرى لكنه لم يستطع رفض مطالب حليف يقدم له معلومات من نوع فريد ففي أيلول سبتمبر 1965 سجل المغرب خلسة جلسات القادة العرب في قمة الدار البيضاء وقدم التسجيلات للموساد في واحدة من أبرز عمليات الاختراق الاستخباراتي في تاريخ المنطقة وصف أميت العملية بأنها مفخرة كبرى للموساد ومن بين أعظم مكاسبها الاستخباراتية الخارجية وكان ثمنها سياسيا وأمنيا معا تقديم دعم لوجستي كامل لإنجاز عملية التخلص من المعارض الأول داخل مملكة الحسن الثاني nbsp يظهر الكتاب أن دور إسرائيل لم يكن تنفيذيا بقدر ما كان لوجستيا وتقنيا بدأ بتتبع تحركات الهدف وتحديد مواقع وجوده وتقديم الخبرات والمعدات اللازمة لإخفاء الجثة واستشارات حول السموم وأدوات إذابتها بما في ذلك توفير أكياس هيدروكسيد الصوديوم واقتلاع الأسنان والضروس كونها الأكثر مقاومة للتذويب واخفائها بعيدا عن مكان وقوع الجريمة ومكان تذويب الجثة وفي الخلفية كان نائب رئيس الأمن المغربي أحمد الدليمي الذي كان يحمل رمز ألبرت ينسق مباشرة مع بعض عملاء الموساد وهو من سينفذ شخصيا عملية الإغراق داخل حوض الاستحمام فيما يتولى الجنرال أوفقير إدارة العملية على الأرض مستخدما شبكة من الوسط الإجرامي الباريسي باريس مسرحا لجريمة سياسية معقدة وبينما يرصد الكتاب التحضير الأمني للعملية فإنه لا يتجاهل السياق الأوسع الذي جعل باريس مسرحا مثاليا لجريمة من هذا النوع ففرنسا الستينيات كما يصفها الكتاب كانت تجمع تناقضات دولة تتعافى من حرب الجزائر الدامية وتتصارع داخلها أجهزة ودوائر ظل ومصالح ما بعد الاستعمار وتظهر الوثائق الفرنسية التي اعتمدها الكاتبان صورة دولة غير متماسكة تعيش صراعا داخليا بين أجهزة الشرطة والمخابرات والقضاء وتحكمها شبكات نفوذ تتجاوز حدود المؤسسات الرسمية كما تكشف محاضر الشرطة القضائية الفرنسية وتقارير مصلحة الوثائق الخارجية ومكافحة التجسس الاسم السابق لجهاز المخابرات الخارجية الفرنسية وملفات القضاء الفرنسي عن علم شخصيات رفيعة بأن تهديدا خطيرا كان يلاحق المعارض المغربي بن بركة على الأرض الفرنسية دون أن يتخذ أحد قرارا واضحا لمنع وقوع الجريمة ويذهب المؤلفان إلى أن الجمهورية الخامسة لم تكن في تلك المرحلة جهازا مركزيا متماسكا بل شبكة متداخلة من الولاءات التي أتاحت تمرير عملية خطف معقدة في قلب باريس أما ردة فعل ديغول حين انفجرت الفضيحة فكانت عنيفة إقالات في أجهزة المخابرات وحل وحدات نخبوية وقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب بعد شعوره بأن جزءا من الدولة الفرنسية قد كسرت هيبته على أرضه قبل أن تعود تدريجيا تحت ضغط الضرورات الجيوسياسية السرد الروائي للأيام الأخيرة شكل مدخلا ضروريا لرواية أعقد وإلى جانب الأرشيفين الإسرائيلي والفرنسي يعتمد الكتاب على كتلة وثائق فريدة من أرشيف المخابرات التشيكوسلوفاكي الذي أصبح متاحا بعد سقوط الأنظمة الشيوعية تكشف هذه الوثائق أن بن بركة كان على صلة بالجهاز تحت الاسم الحركي الشيخ وأنه نسق معه في سنوات مطاردة النظام المغربي له لكن المؤلفين لا يقدمان هذه المعلومة بصفتها إدانة بل بوصفها جزءا من واقع عالمي كان فيه زعماء حركات التحرر في العالم الثالث يلجؤون لأجهزة المعسكر الاشتراكي للحصول على الدعم والمعلومات nbsp مصالح إستراتيجية وراء الجريمة nbsp وإذا كانت هذه الوثائق تعطي وضوحا غير مسبوق للأدوار المختلفة في العملية فإن الكتاب يذهب أبعد من ذلك بإعادة تشكيل المناخ السياسي الذي سبقها يظهر بن بركة في الكتاب لا بوصفه مجرد ضحية جريمة سياسية أو مجرد معارض مغربي مطلوب رأسه بل شخصية ذات وزن عالمي لعبت أدوارا محورية في مؤتمر باندونغ الآسيوي الأفريقي وفي تهيئة ظروف انعقاد مؤتمر القارات الثلاث الذي كان سيلتئم في نفس السنة في هافانا وكانت تحركاته المكثفة بين عواصم الدول بأربع قارات تمثل تهديدا مزدوجا لنظام الحسن الثاني وللتوازنات الدولية التي كانت تتشكل على حافة الحرب الباردة لذلك فإن قرار تصفيته لم يكن فقط مطلبا مغربيا صرفا بل جزءا من لوحة عالمية تتقاطع فيها مصالح أنظمة ما بعد الاستقلال مع شبكات استخبارات دولية ومع موجة ثورية تجتاح بلدان الجنوب nbsp ويرى الكاتبان أن الصراع بين بن بركة والحسن الثاني لم يكن صراعا على النفوذ فحسب بل صراعا حول مستقبل الدولة المغربية بعد الاستقلال هل ستكون ملكية تنفيذية مركزية كما أرادها الحسن الثاني أم مشروعا ديمقراطيا اجتماعيا تقدميا كما كان يطمح إلى ذلك جزء من رموز الحركة الوطنية المغربية وعلى رأسهم المهدي بن بركة nbsp في هذا الإطار يصبح اغتيال بن بركة بما يحمله من رمزية داخلية وخارجية أكثر من جريمة سياسية يصبح لحظة مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر ومع أن الكتاب يقدم رواية مترابطة فإنه لا يدعي تقديم إجابة نهائية لا يزال مصير الجثة لغزا محيرا ولا تزال تفاصيل القرار الأخير بالقتل محل جدل كما أن ملفات المخابرات الأميركية التي لم تكن بعيدة من تنفيذ جريمة بهذا الحجم لا تزال مغلقة دون أن نهمل الجزء المخفي من جبل الثلج الذي يمثله أرشيف المخابرات المغربية وشهود المرحلة من داخل أجهزة الدولة المغربية الذين مازال بعضهم على قيد الحياة والذين يخفون الكثير من التفاصيل الحاسمة في الوصول إلى الحقيقة ومع ذلك فإن هذا الكتاب يحقق ما لم تحققه الكثير من الكتب الصادرة قبله حول نفس القضية وأهم ما يحققه هو تقليص مساحة الغموض وتقديم وثائق يمكن اعتبارها الأساس الأكثر صلابة إلى اليوم لرواية واقعية فالكتاب بما له وما عليه لا تكمن قيمته فقط في الكشف عن تلك الطبقات السرية من جذاذات الأرشيف والكابلات والمراسلات السرية بل في جمعها في سرد واحد مكثف يكشف كيف تداخلت خطوط المغرب وفرنسا وإسرائيل وعواصم أخرى ضمن لوحة عالمية يتصارع فيها مشروع ملكية تنفيذية صاعدة في الرباط وغليان سياسي في باريس ما بعد الاستعمار وحسابات استخباراتية إسرائيلية تبحث عن منافذ قوة في شمال إفريقيا ومعارضة مغربية تحمل مشروعا تحرريا عابرا للحدود لكن الكاتبين يتركان أسئلة أساسية معلقة مصير الجثة طبيعة القرار الأخير بالقتل والأدوار التي لم تكشفها بعد ملفات المخابرات الأميركية المغلقة ومع ذلك ينجح المؤلفان في تقليص مساحة الغموض التي لازمت القضية وفي بناء رواية أقرب ما تكون إلى الخريطة الشاملة لملف امتد عبر ستة عقود ولا يزال صداه يتردد في ذاكرة المغرب والعالم بوصفه إحدى أكثر القضايا السياسية استعصاء على النسيان