ما يطلبه المستمعون الزمن الجميل على المنصات الرقمية

٥٢ مشاهدة
تمنحنا منصات الموسيقى الرقمية اليوم صورة شبه دقيقة عن الأغاني القديمة الأكثر رواجا وحضورا في الذاكرة السمعية للجمهور فهي لا تكتفي بعرض الأرشيف بل تعيد ترتيبه وفق ذائقة معاصرة ترفع بعض الأعمال إلى الواجهة وتبقي غيرها في مناطق الظل وإذا أخذنا سيدة الغناء العربي أم كلثوم مثالا فإننا نلاحظ أن انتقالها في مراحل متأخرة من مسيرتها إلى التعاون مع ملحنين جدد وعلى رأسهم بليغ حمدي ثم محمد عبد الوهاب كان بمثابة مغامرة فنية كبرى أثمرت عن أعمال أصبحت اليوم من الأكثر تداولا واستماعا غير أن هذا يقودنا إلى سؤال أوسع هل تعيش الأغاني لأنها الأفضل فنيا أم لأنها تستند إلى بنى لحنية أكثر جودة أم لأن الذائقة السائدة هي العامل الحاسم في بقائها وانتشارها بعيدا عن عالم الغناء يمكننا الاستعانة بحيلة سردية ذكية استخدمها الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس في روايته كرسي الرئاسة في هذه الرواية يلقي رئيس المكسيك خطابا أمام الكونغرس يطالب فيه منتصرا للمبادئ بانسحاب قوات الاحتلال الأميركي من كولومبيا ولا يكتفي بذلك بل يفرض حظرا على تصدير النفط المكسيكي إلى الولايات المتحدة ترد الأخيرة بعقوبة غير معلنة فتقطع جميع أشكال الاتصال السلكية واللاسلكية عن المكسيك لتختفي فجأة كل وسائل التواصل من الهاتف إلى الإنترنت وحتى التلغراف المندثر بل إن الحمام الزاجل نفسه تسمم كما لو أنه سحر في ظل هذا الانقطاع الشامل لا يبقى سوى وسيلة واحدة للتواصل الرسائل المكتوبة هكذا تتحول الرواية إلى مجموعة مراسلات متبادلة بين شخصياتها في عودة واعية إلى تقنية سردية كلاسيكية ابتكرها الروائي الإنكليزي صامويل ريتشاردسون في القرن الثامن عشر ماذا لو طبقنا هذه الحيلة السردية على عالم الأغاني ماذا لو افترضنا اختفاء التسجيلات الصوتية واحتراق الأرشيف الموسيقي كما لو أنه سحر وتلاشي كل معرفة حديثة بالتدوين الموسيقي في هذا السيناريو المتخيل لا يبقى سوى التناقل الشفاهي كما كان الحال في الأزمنة القديمة إذ تنتقل الأغاني من فم إلى آخر ومن جيل إلى الذي يليه وفق هذه الفرضية أي الأغاني ستبقى من ما اصطلحنا على تسميته الزمن الجميل وأيها سيكون أكثر عرضة للاندثار من رصيد أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفيروز وفريد الأطرش هناك عوامل عديدة تساهم في استدامة الأغاني وبقائها الجودة الفنية وحدها ليست العامل الحاسم بل إن الذائقة تلعب الدور الأكبر في منح الأغاني حياة أطول داخل الوجدان الجمعي بعض الأغاني تنجح نجاحا مدويا عند صدورها ثم تتلاشى سريعا كفقاعة تنفجر ثم تختفي بينما تحتاج أخرى إلى زمن طويل كي تجد طريقها إلى الجمهور وتترسخ في الذاكرة هكذا نلاحظ شبه ثبات في قائمة الأغاني القديمة الأكثر جماهيرية مع وجود بعض المتغيرات اللافتة فبعض الأعمال التي كانت محدودة الانتشار تشهد صعودا مفاجئا عبر منصات الموسيقى ووسائل التواصل الاجتماعي مثال ذلك أغنية أم كلثوم في نور محياك من ألحان زكريا أحمد التي تعود إلى عام 1945 هذه الأغنية لم تكن يوما ضمن الأعمال الأكثر تداولا لكنها دخلت أخيرا قائمة الأكثر استماعا على منصة سبوتيفاي متجاوزة أربعة ملايين استماع بعد تداولها على نطاق واسع في السنوات الأخيرة غير أن الأغاني الأكثر انتشارا اليوم من أرشيف الزمن الجميل ليست بالضرورة أجمل ما غناه أصحابها فالكثير من أغاني أم كلثوم الأكثر استماعا تعود إلى مرحلة متأخرة من حياتها الفنية حين كان صوتها يعيش خريفه وتحديدا منذ عام 1964 وحتى رحيلها وإذا عدنا إلى قائمة أغانيها الأعلى استماعا على سبوتيفاي سنجد أن معظمها ينتمي إلى عقدي الستينيات والسبعينيات ومن بين الأغاني العشر الأولى نجد أن نصفها من ألحان بليغ حمدي وثلاثة ألحان لمحمد عبد الوهاب بينما يحضر كل من زكريا أحمد ورياض السنباطي بأغنية واحدة لكل منهما تتصدر أغنية ألف ليلة وليلة القائمة بأكثر من ثمانية عشر مليون استماع تليها أنت عمري بـ11 مليونا ثم سيرة الحب بأكثر من سبعة ملايين فـبعيد عنك بنحو ستة ملايين ثم في نور محياك اللافت أن أول حضور لمحمد القصبجي في هذه القائمة يأتي عبر أغنية يا صباح الخير ذات الطابع اللحني البسيط وليس عبر تحفته الأشهر رق الحبيب التي تأتي في مرتبة متأخرة نسبيا لا تختلف كثيرا صورة الانتشار على منصة أنغامي إذ تتصدر ألف ليلة وليلة أيضا تليها أنت عمري ثم سيرة الحب أما إحصاءات مجلة روز اليوسف في أواخر التسعينيات حول مبيعات أغاني أم كلثوم فقد وضعت سيرة الحب في الصدارة تليها أنت عمري مع حضور واضح لأغان مثل فات المعاد والأطلال وفكروني ويا مسهرني وهي أعمال لا تزال حاضرة بقوة حتى اليوم تظل أم كلثوم الفنانة العربية الأكثر استماعا بين الراحلين سواء على منصات الموسيقى أو عبر يوتيوب إذ تحظى قناتها عليه بأكثر من ثلاثة ملايين مشترك ومشاهدات شهرية بملايين عدة قبل أن تتوقف نتيجة نزاعات قضائية معقدة يليها عبد الحليم حافظ انتشارا ولا تزال أغانيه تستقطب جمهورا بعد مرور نحو نصف قرن على رحيله تتصدر ألحان بليغ حمدي أيضا قائمته الأكثر رواجا سواء على يوتيوب أو سبوتيفاي أو أنغامي إذ تتكرر أسماء مثل على حسب وداد وجانا الهوى زي الهوى بليغ وأهواك عبد الوهاب وقارئة الفنجان محمد الموجي أما فريد الأطرش فيأتي بفارق ملحوظ من ناحية الاهتمام مع استمرار حضور بعض أغانيه مثل ما نحرمش العمر منك وقلبي ومفتاحه في المقابل تبدو صورة محمد عبد الوهاب أكثر إشكالية إذ تتصدر أغنية لا مش أنا اللي أبكي قائمة أعماله الأكثر استماعا رغم أنها لا تمثل ذروة إبداعه فضلا عن الجدل حول اقتباس لحنها من أغنية فرنسية ما يثير حسرة عند مقارنة هذا الانتشار بغياب روائع مثل الجندول والكرنك وأهون عليك عن قوائم التداول الواسع بالعودة إلى الفانتازيا السوداء المستوحاة من فوينتس إذ تختفي التسجيلات وتعود الأغاني إلى التداول الشفاهي فإن الأكثر حظا بالبقاء ستكون الأعمال الأبسط والأكثر تداولا بين الناس عند تطبيق هذه الفرضية على أم كلثوم ستبقى غالبا أغاني بليغ حمدي وألحان عبد الوهاب وبعض أعمال السنباطي المتأخرة مثل الأطلال ولسه فاكر بينما ستكون روائع القصبجي المعقدة مثل يا مجد ومنيت شبابي أكثر عرضة للنسيان هكذا يتضح أن الأغاني لا تعيش لأنها الأجود بالضرورة بل لأنها الأكثر استخداما وانتشارا ولأن بساطتها تجعلها قابلة للتداول فالموسيقى كما قال ابن خلدون أول أشكال العمران عرضة للاندثار وكما رأى ليوناردو دافنشي اللوحات باقية أما الموسيقى فتفنى ولولا عصر التسجيلات لكان تاريخ الغناء مختلفا تماما وربما أكثر قسوة على العبقريات الكبرى

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2025 أحداث العالم