حين تدان المشاعر قبل ولادتها

٥٦ مشاهدة
ولد الإنسان عادة وهو يحمل في صدره مساحة واسعة للعاطفة مساحة مفتوحة كسهل أخضر ينتظر المطر غير أن هناك أماكن وأزمنة تتحول فيها هذه المساحة إلى أرض مفخخة يخشى السير فوقها ويدان فيها الشعور قبل أن يتشكل لا تعامل المشاعر ككائنات حية تستحق النمو بل كجرائم محتملة كأفكار مشبوهة يجب إجهاضها قبل أن تكتمل في مثل هذه الأمكنة لا يملك القلب رفاهية الإحساس كل إحساس يشبه خطوة فوق أرض ملغمة وكل خفقة قد تكون سببا للعقاب تدان المشاعر قبل أن تولد لأن العالم من حولها لا يحتمل هشاشتها ولأن الهشاشة تحولت في نظر كثيرين إلى عيب يعاقب عليه في العوالم الممزقة لا تأتي العواطف بوصفها حقا طبيعيا بل كجريمة محتملة ينظر إلى الفرح على أنه تجاوز للحدود وإلى الحنين كترف غير مسموح به وإلى الحب كخطر على النظام الداخلي للنجاة كأن القلب نفسه يعيش تحت محكمة صارمة تصدر أحكامها في صمت لا يسمعه أحد يحاكم الفرح أولا لأنه الأكثر صخبا يسأل بأي حق تطرق الأبواب ألا ترى أن البيوت مثقوبة وأن النوافذ مجروحة وأن الضحكة حين تنطلق قد تتحول إلى ندبة فيغادر الفرح المكان قبل أن يصل كضيف تلقى إنذارا بالاعتقال أحيانا أرتجف حين تلمع في داخلي فكرة فرح فرح بسيط تافه حتى لكنه يبدو كطائر أحمق يحاول التحليق وسط عاصفة أمد يدي لأمسكه لأخبئه لأحميه من حكم الإعدام الذي يلاحقه لكنه يرفرف ويريد الخروج يريد أن يعيش وأنا أعرف أنه لن يعيش طويلا تدان المشاعر قبل أن تولد لأن العالم من حولها لا يحتمل هشاشتها ولأن الهشاشة تحولت في نظر كثيرين إلى عيب يعاقب عليه ثم يأتي دور الحزن لكن حتى الحزن لا يسمح له بالظهور يعد مبالغة خرقا لقواعد التماسك إزعاجا لقلوب تجاهد كي تبقى واقفة يشبه غيمة ثقيلة عالقة بين رئتين لا تريد أن تمطر ولا أن ترحل تبقى معلقة فوق القلب تراقب من بعيد كمن ينتظر موعد محاكمته المؤجلة يدان الحزن لأنه صادق أكثر مما يجب ولأن الصدق في تلك العوالم مكلف الحنين ذلك الزائر العنيد يطلب منه أن يتراجع خطوة أن يكف عن فتح الأبواب القديمة وأن يتخلى عن عادته في تذكيرنا بما كنا عليه قبل أن يصبح الشعور تهمة أما الحب آه ذلك المتهم الأعظم الحب طفل مشاغب لا يسمع التحذيرات كل مرة يولد فيها يولد مدانا لا أحد يمنحه فرصة ليتعلم المشي يفتشون جيوبه الصغيرة بحثا عن سبب إدانته ولا يعرفون أن الحب لا يرتكب جريمة الجريمة الوحيدة هي وجوده في مكان لا يسمح للبذور أن تنمو وأنا أقف بين كل هذه المشاعر كقاض لا يملك حق إصدار الأحكام وكشاهدة لا تستطيع إنقاذ أحد أقف مثل أم تبعد أطفالها عن المطر وهي تحب المطر أكثر منهم تجري المحاكمة كلها داخل الصدر في تلك المساحة الصغيرة التي كان من المفترض أن تكون بيتا آمنا للمشاعر لكنها تتحول إلى قاعة محكمة باردة قاض يكتب أحكامه على جلد القلب وشهود يأتون من ذاكرات مرهقة ودفاع ضعيف لا يملك إلا أن يهمس دعوهم يعيشون ولو قليلا حين تدان المشاعر قبل أن تولد يدخل الإنسان في علاقة مع نفسه تشبه علاقة السجين بسجانه يخاف من انفعالاته يراقبها بحذر يدفنها قبل أن ترفع رأسها يعيش بنصف قلب ونصف نفس ونصف قدرة على الحياة يتحول ما تبقى منه إلى مساحة تستخدم للنجاة لا للحياة لكن ما لا يعرفه العالم وما لا يعترف به القمع ـ سواء جاء من الظروف أو الخوف أو الصدمات ـ هو أن المشاعر مهما ضيق عليها لا تموت إنها تغير شكلها فقط ما لا يعرفه العالم وما لا يعترف به القمع ـ سواء جاء من الظروف أو الخوف أو الصدمات ـ هو أن المشاعر مهما ضيق عليها لا تموت الفرح يتحول إلى ابتسامة قصيرة لكنها شرسة والحب يصبح نبضة ترتجف عند ذكرى شخص ما والحنين يتنكر في رائحة أو لون أو أغنية أما الحزن فيتغلغل بعمق لكنه أيضا يلين ويعلم الإنسان عن نفسه ما لا تعلمه الأيام العادية وهكذا ندرك أن المشاعر لا تحتاج إلى حرية كاملة بل إلى لحظة صغيرة من السماح لحظة تتنفس فيها بلا خوف بلا محاكمة بلا قفص غير أن الواقع في كل مرة نحاول منحها هذه اللحظة يطوقنا بأسلاكه ويذكرنا أن هذا المكان مهما حاولنا تجميله ما زال يقرأ المشاعر كتهديد ويفسر الرقة كضعف ويعتبر الحلم خروجا على القانون ومع ذلك هناك شيء عنيد في داخلنا يرفض الاستسلام شيء يقول لنا دعوا المشاعر تخرج ولو إلى السطح فقط دعوها تولد رغم الحكم دعوها تحاول من يدري ربما تنجو ولأجل هذا الصوت الصغير أكتب أكتب كأنني أفتح بابا سريا للعواطف كي تمر أكتب لأمنحها لحظة واحدة من الحياة حتى لو كانت لحظة هاربة فربما فقط ربما لا تدان المشاعر حين تجد من يعترف بها ولو همسا المشاعر التي تدان قبل أن تولد لا تفنى إنها تولد من جديد في مساحات أصغر وأكثر خفاء لكنها أكثر صدقا تولد في الأعماق بعيدا عن الضوء لكنها حين تخرج تخرج قوية وناضجة قادرة على أن تقول للعالم لم تنجحوا في قتلي لقد تأخرت ولادتي فقط وهكذا يصبح الإنسان الذي عاش تحت أحكام الإعدام العاطفي إنسانا آخر أعمق أصدق وأكثر قدرة على الإصغاء لصوته الداخلي وأكثر فهما لمعادلة الوجود التي لا تكتب بالكلمات بل بالنبضات التي قاومت كل شيء كي تستمر

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2025 أحداث العالم