بعد قرن على اكتشاف مقبرة الملك الفرعوني توت عنخ آمون تفتح كنوزه أخيرا أبوابها أمام الجمهور في المتحف المصري الكبير الذي افتتح حديثا عند هضبة الأهرام في حدث يمثل واحدا من أهم الفصول الثقافية في تاريخ مصر الحديث حضور الملك الصغير داخل المتحف الجديد يشكل لحظة استعادة رمزية لتاريخ طويل ظل يدهش العالم منذ أن رفع هوارد كارتر غطاء المقبرة في نوفمبر تشرين الثاني 1922 المتحف المصري الكبير الذي بلغت تكلفة إنشائه نحو مليار دولار يمتد على مساحة 120 فدانا ليكون أكبر متحف أثري في العالم مخصص لحضارة واحدة يضم المتحف أكثر من خمسين ألف قطعة أثرية تغطي خمسة آلاف عام من التاريخ المصري ويتبنى رؤية معمارية ومعروضات رقمية حديثة تجعل من التجربة متعة بصرية وتعليمية رغم أن المتحف فتح جزئيا قبل عام تقريبا لاستقبال الزوار فإن صالات توت عنخ آمون وهي جوهرة التاج في هذا الصرح العملاق ظلت مغلقة حتى لحظة الافتتاح الرسمي حفاظا على طابع المفاجأة الذي رافق المشروع منذ انطلاقه وللمرة الأولى منذ اكتشاف المقبرة تعرض جميع مقتنيات الملك الشاب البالغ عددها خمسة آلاف و398 قطعة في مكان واحد كثير من هذه الكنوز ظل متنقلا بين المتاحف والمعارض حول العالم أو محفوظا في المخازن أما اليوم فقد أعيد ترتيبها داخل قاعات ضخمة تحاكي تسلسل المقبرة الأصلية في وادي الملوك من بين المعروضات تلك القطع الأيقونية التي يعرفها العالم جيدا مثل القناع الذهبي المهيب والتابوت المذهب والكرسي المرصع بالأحجار الكريمة وكل ما كان يرافق الملك في رحلته إلى العالم الآخر لكن المعرض لا يكتفي بما هو مألوف بل يكشف أيضا عن جوانب خفية من حياة هذا الفرعون الذي حكم مصر وهو في التاسعة ومات قبل أن يبلغ العشرين تشمل المعروضات مجموعة نادرة من الأسلحة وعتاد الحرب تضم ست عربات حربية وأربعة خناجر وثماني دروع وعشرات الأقواس والسهام تكشف هذه المقتنيات عن ملك شاب كان له اهتمام واضح بفنون القتال وقيادة الجيوش وربما شارك فعلا في معارك خارج طيبة القديمة هذه الترسانة من الأسلحة المتنوعة قد تغير نظرتنا إلى الملك الذي لطالما عومل على أنه طفل صغير ومن بين الكنوز التي تعرض لأول مرة تلك التي أعيد تجميعها بعد 100 عام من اكتشافها فهناك نحو 1500 قطعة ذهبية صغيرة عثر عليها متناثرة أسفل العربات في الحجرة الثانية داخل المقبرة هذه الشظايا ظلت مهملة لعقود حتى أعاد العلماء تركيبها لتشكل نحو سبعين لوحة زخرفية كانت تكسو جلود الخيول وأحزمة القيادة الزخارف المرسومة على هذه القطع تجمع بين رموز نباتية سورية ونقوش حلزونية من الطراز الإيجي ما يشير إلى تفاعل فني بين مصر والعالم المحيط بها في ذلك الزمن تفسر هذه التفاصيل بوصفها محاولة لإظهار الملك في هيئة الحاكم العالمي الذي تندرج تحت سلطته شعوب وأقاليم مختلفة ومن المعروضات التي جذبت اهتمام العلماء والزوار على السواء خنجر صغير كان موضوعا فوق بطن المومياء يبدو في ظاهره قطعة فنية مذهلة بقبضة مذهبة مرصعة بالأحجار لكن سره الحقيقي يكمن في مادته فنصل الخنجر مصنوع من حديد مصدره نيزك سقط على الأرض قبل آلاف السنين تحليلات حديثة أظهرت أن النصل يحتوي على نسب مرتفعة من النيكل والكوبالت وهي عناصر لا تتوافر في الحديد الأرضي بذلك يكون هذا الخنجر أحد أقدم الشواهد على استخدام المصريين الحديد النيزكي بل وربما رمز لعلاقة الفرعون بالعالم السماوي الاهتمام بهذه القطع لم يقتصر على قيمتها الجمالية بل امتد إلى ما تحمله من مفاتيح لتفسير حياة الملك وموته فبينما كانت النظريات السابقة ترجح وفاته نتيجة الملاريا أو كسر في الساق تشير دراسات حديثة إلى احتمال موته في معركة خارج طيبة ثم نقله لاحقا لدفنه في مقبرته المعروفة هذا التفسير إذا صح يعيد قراءة القصة ويضع أمامنا صورة لملك محارب قتل في ميدان القتال وليس لفتى عليل قاده الحظ إلى العرش تمثل إعادة عرض كنوز توت عنخ آمون جزءا من محاولة مصرية لإعادة كتابة السردية البصرية للحضارة المصرية القديمة أمام العالم فبعد سنوات من التنقل بين المعارض الأوروبية والأميركية تعود هذه الكنوز إلى مكانها الطبيعي حيث ولدت وصنعت في ذلك بعد رمزي يربط بين الأثر والمكان والذاكرة الوطنية ويعيد إلى الفرعون الشاب حضوره في وجدان المصريين ليس بوصفه أيقونة ذهبية فحسب بل رمزا ثقافيا مؤثرا ومهما