حفيدة غردون باشا لتسنيم طه ميراث الشقاق

٥٢ مشاهدة
تبدو المأساة السودانية في ظاهرها سلسلة من الانقلابات والحروب والنزاعات غير أن الروائية السودانية تسنيم طه في روايتها حفيدة غردون باشا دار رشم للنشر 2025 تقترح قراءة مغايرة تعيد الصراع إلى جذوره الأنثروبولوجية والنفسية فلا تكتفي الرواية بتوثيق الخراب السياسي بل تعيد بناء الذاكرة الجماعية بوصفها حلبة للصراع بين روايات متنازعة وفضاء تختبر فيه هشاشة الهوية السودانية أمام تراكم التاريخ الاستعماري والاقتتال الأهلي تنقل تسنيم طه المأساة من ميدان المعركة إلى متاهة الذات وقيود العائلة ومن ركام الخرطوم عام 2023 إلى جدران ذاكرة مهجنة تتناسل فيها الأسئلة أكثر مما تقدم فيها الإجابات مختبر الهوية المعلقة تقدم الكاتبة صورة الهوية السودانية بوصفها بنية متصدعة تعيش على حافة السؤال فبطلة الرواية ست النفور ذات الأصول السودانية الفرنسية ليست مجرد حفيدة لجيل غابر بل تجسيد حي لزمن الانشطار بين الانتماءين الوطني والمستعمر وهي جيل ثالث يعود روحيا وفعليا لينبش في تاريخ عائلة مركب يمتد إلى زمن الاستعمار ويتقاطع فيه الحب مع الخيانة والموت مع البحث عن أصل ثابت تبدأ الحكاية من جدها زكريا الذي يمثل الجسر الحكائي مع جيل الأجداد وتعود جذوره إلى علاقة بين الخواجية آن موريس وأرض لم تعد تعرف أبناءها ومن هذا التداخل بين الأجنبي والوطني يتولد حدث مراجعة شجرة نسب غير مستقرة تماهت فيها حدود الأسرة مع حدود الوطن نفسه وفي الطريق لربط هذه الحلقات لا تعتمد الرواية على زمن خطي بل على تقاطعات زمنية تتيح تتبع الأثر المدمر للاستعمار والصراع الأهلي عبر الأجيال وتتحول كتابة ست النفور لروايتها بمساعدة جدها إلى فعل تأليف ذاتي تحاول من خلاله ترتيب فوضى الماضي واستعادة المعنى وسط عتمة الحكايات المتناثرة بهذا المعنى نتتبع وسيلة إنقاذ الهوية من الذوبان فلا يتحقق خلاص الذات السودانية إلا بكتابتها من جديد لا بتلقيها موروثا مغلقا تكسير الأصنام ومن أكثر مناطق الرواية جرأة كشفها للطبقات الدينية والاجتماعية التي تتصارع داخل الوعي السوداني إذ تهدم تسنيم طه الصورة النمطية عن التجانس العقائدي كاشفة عن تاريخ طويل من التعدد الديني والعرقي بين المسلمين والمسيحيين واليهود وتداخلاته فقصة راحيل راشيل اليهودية التي تتزوج مسيحيا ثم حكاية خالتها فريحة تمثلان نواة سردية تهز فكرة الهوية المطلقة وتعيد طرحها بوصفها نتيجة تماس مع الآخر لا نفيا له هذه التشابكات القديمة تنعكس في حياة الحفيدة التي تجد نفسها بين رفض أمها لعلاقتها برجل لا يوافق المعتقد الديني للعائلة وصدمة خذلانها من آخر يوافق معايير المجتمع ويخالف قيمها هذه اللعنة التي تلاحق الحفيدة وكأنها عقاب اجتماعي على تاريخ العائلة المتداخل والمختلف تجعلها تشعر بـعدم الاستحقاق وهنا يصبح الحب مرآة لعقدة الانتماء ويتحول الجسد إلى جغرافيا رمزية تعبر عن وطن فقد توازنه الذاكرة الجماعية بوصفها حلبة للصراع بين روايات متنازعة في هذا المستوى تغدو الرواية مواجهة صريحة مع البنية الذكورية والاجتماعية التي تحكم علاقات النساء في المجتمع السوداني فالفشل في إقامة علاقة حب متوازنة يتماهى مع الفشل في تأسيس وطن سليم كلاهما ضحية تاريخ من الخوف والإنكار ومع عودة ست النفور إلى قرشي ابن بلدتها بعد سلسلة من الخيبات يبدو أن الكاتبة تؤمن بأن الخلاص على هشاشته لا يزال ممكنا عبر الاعتراف بالأصيل لا عبر محاكاة الغريب سجل الخيبة لا بد من قراءة حفيدة غردون باشا ضمن سياق أوسع بوصفها الحلقة الأحدث في مجريات الانقسام السوداني التي شغلت الأدب والسينما خلال العقدين الأخيرين فروايتا شوق الدراويش لحمور زيادة ورقص الإبل لفتحي إمبابي تعودان إلى الحقبة المهدية في القرن التاسع عشر حيث انبثقت أولى الخلافات بين الدين والسلطة وتحول الخطاب الروحي إلى مشروع سياسي دموي لقد أسستا لما يمكن تسميته بـمليشيات المهدية التي دشنت العنف أداة لتأسيس الدولة وهو عنف ما زالت ارتداداته تتكرر حتى اللحظة الراهنة الخلاص لا يزال ممكنا عبر الاعتراف بالأصيل لا محاكاة الغريب ثم يأتي فيلم وداعا جوليا لمحمد كردفاني ليمثل الجسر الفاصل بين الماضي البعيد المهدية والماضي القريب الانفصال الفيلم لم يكن عن حرب جيوش بل عن حرب الوجود المشترك بين الشمال والجنوب قصة منى الشمالية وذنبها تجاه جوليا الجنوبية تعد نموذجا للعلاقة المختلة بين المكونين هذه العلاقة المليئة بالذنب والكبرياء والتبعية هي ما أدى إلى تمزيق البلاد عام 2011 وخلق جيلا آخر من النازحين والمنقسمين هذه الطبقات المتراكمة من الخذلان الاجتماعي والسياسي تمهد الطريق أمام رواية تسنيم طه التي تطرح سؤالا ممتدا كيف نرمم صدع الانشقاق كتابة مضادة للخطاب الرسمي لا يبدو تلافي الانشقاق سهلا في حفيدة غردون باشا إذ يتبنى العمل موقفا نقديا يقدم السرد أداة لتفكيك الرواية الرسمية التي ربطت الهوية بقوالب جامدة إذ تمنح الهامش صوتا وتعيد إليه حقه في التعبير عن تجارب مختلفة خصوصا تلك التي تخص النساء والمختلطين هذا الانحياز إلى صيغ الحكاية عن الطرف الآخر يخضع الخطاب التاريخي للاختبار ويكشف هشاشته أمام تعدد الروايات المحلية ترفض الحكاية فكرة النقاء الوطني وتعرضها كونها أوهام منتجة وتدعو إلى قبول التداخل مصدرا لقراءة حداثة السودان وفشله في إنتاج مشروع وطني موحد ويفكك النص الأساس الأيديولوجي للاحتكام إلى أصالة نسبية واحدة ويطرح مفهوما بديلا هوية متعددة الأنساق يمكن التعامل معها باعتبارها أصلا معقولا للحياة المشتركة في هذا الامتداد التاريخي المأزوم تأتي الرواية لتتجاوز التوثيق نحو إعلان خلاصة مريرة لمسار طويل من الإخفاقات إذ ترى في حرب 2023 نتيجة حتمية لخسارات سياسية واجتماعية متراكمة لا صدمة عابرة في تاريخ البلاد ناقدة ومترجمة مصرية

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2025 أحداث العالم