يشبه رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز تلك الشخصيات التي تتكرر محاولاتها للنهوض من تحت الركام كل مرة بطريقة مختلفة ليس لأنه شجاع بالضرورة بل ربما لأنه عرف كيف يستمر مهما كانت الخسائر كل هزيمة سياسية في مسيرته تبدو فصلا إضافيا في قصة أطول يعود إليها ليعيد ترتيب الأحداث مرة بصياغة جديدة ومرة بإجراءات واقعية تحركه إلى الأمام هكذا وصل إلى رئاسة الحكومة الإسبانية متعثرا لكنه واقف على قدميه ولد سانشيز في مدريد عام 1972 وهو ابن لموظفة في الخدمة المدنية ورجل أعمال صغير في قطاع النقل لم ينحدر من بيت حزبي أو سلالة سياسية لكنه وجد في السياسة مجالا لتوظيف طموحه طويل النفس وذكائه التحليلي درس الاقتصاد في جامعة كومبلوتنسيه ونال الماجستير من جامعة بروكسل الحرة والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة كاميلو خوسيه ثيلا منذ دخوله الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني بدا سانشيز كمن يلعب الشطرنج مع واقعه السياسي يسقط الملك يعيد ترتيب القطع ويبدأ من جديد لعبة جديدة في عام 2014 ارتقى من الصفوف الخلفية إلى قيادة الحزب شابا وسيما يملك هدوءا وثقة لفتت الأنظار الثقة نفسها التي أغضبت رجالات الاشتراكية المخضرمين في الحزب ثم جاء خريف 2016 ليذكره أن السياسة الإسبانية لا ترحم وأن تاريخ الأشخاص له ثقله في السياسة أيضا رفض منح اليمين الإسباني فرصة لتشكيل الحكومة فثار عليه قادة حزبه وأجبروه على الرحيل شوهد وهو يغادر مقر الحزب حاملا صندوق كرتون فيه أوراقه الخاصة في صورة تلخص معنى الخسارة حين تكون علنية صورة ستبقى في ذاكرة الإسبان أحد أكثر المشاهد إنسانية في السياسة الإسبانية الحديثة لكن الرجل عاد من الباب نفسه وأسرع مما توقع كثيرون في 2017 انتصر في الانتخابات الداخلية للحزب على خصومه المدعومين من النخبة التقليدية معيدا ترتيب المشهد الداخلي كانت عودته درسا في المعاندة السياسية وانتصارا في الصفوف الداخلية للحزب لقد فهم جيدا تحولات المجتمع الإسباني ولا سيما التحولات داخل القادة الشعبية للحزب الذي ينتمي إليه القاعدة التي تقوم على مبدأ القوة في السياسة لا تأتي من المكتب ولا من الصور الرسمية إنما تأتي من القواعد الشعبية التي شعرت للمرة الأولى أن أحدا يتحدث بلغتها بعد عام واحد كان الرجل ذاته يقف في البرلمان الإسباني مقدما اقتراحا بحجب الثقة عن ماريانو راخوي بعد فضيحة الفساد المعروفة بـغورتيل لم يراهن كثيرون على نجاحه لكنه جمع المعارضة وصوت النواب لصالحه فسقط راخوي وصعد سانشيز إلى قصر لا مونكلوا رئيسا للحكومة في يونيو حزيران 2018 أدار سانشيز مفاوضات صعبة لتشكيل أول حكومة ائتلافية حديثة مع حزب بوديموس في يناير كانون الأول 2020 قبل أن تضرب الجائحة العالم تبعتها أزمة اقتصادية عميقة ثم تحديات داخلية من الانفصال الكتالوني وهجوم اليمين الشعبوي كل اختبار كان جديدا لكنه تعامل معه بشكل متدرج محافظا على توازنه السياسي من دون الانغماس في المبالغة في الذات في عام 2024 عاد شبح الفضيحة ليطرق أبواب حكومته ولكن هذه المرة عبر ما عرف بـقضية كولدو نسبة إلى أحد المقربين من وزير النقل السابق والمتورط في صفقات مشبوهة لشراء كمامات خلال جائحة كورونا وجد سانشيز نفسه في مرمى عاصفة سياسية جديدة ودعي إلى المثول أمام مجلس الشيوخ للدفاع عن نزاهة حكومته واجه الاتهامات ببرودة أعصاب لافتة متحدثا عن محاولة من اليمين لتسييس القضاء وتلويث الحياة العامة خرج من الجلسة محاطا بالجدل لكنه خرج واقفا كما يفعل دائما وقد حول الأزمة إلى مساحة جديدة لاستعراض صلابته وفي ظل تخبطات الداخل الإسباني عرف كيف يستغل اللحظة التي ستنقله إلى موقع اللاعب الأوروبي الفعال الإبادة في غزة تميز بموقفه وموقف حزبه وحكومته من فلسطين في مايو أيار 2024 حين أعلنت الحكومة الإسبانية رسميا اعترافها بدولة فلسطين في عز الإبادة مؤكدا أن القرار جاء من أجل العدالة والسلام في واحدة من أشد جلسات البرلمان التي عرفتها المملكة الإسبانية هي كلمات أربكت أوروبا وجعلت مدريد للمرة الأولى منذ عقود في موقع أخلاقي متقدم داخل الاتحاد الأوروبي تحدث عن غزة بلغة غير بيروقراطية وكأنها ليست ملفا سياسيا بل جرح إنساني أثار قراره غضب حكومة بنيامين نتنياهو كما هاجمته المعارضة الإسبانية اليمينية باعتباره مغامرا بالسياسة الخارجية لكنه بدا مطمئنا ثمة لحظات لا تقاس فيها الحياة بالكلفة السياسية إنما بالوزن الأخلاقي اليوم في مدريد يرى فيه كثيرون داخل الحزب الاشتراكي رمزا للاستمرارية أكثر منه للثورة زعيما أعاد للحزب توازنه بعد سنوات من الانقسام وإن لم يقنع بعد جميع أجنحته بعض رفاقه يعتبرونه سياسيا براغماتيا أكثر من كونه حاملا لمشروع أيديولوجي صاف بينما يراه آخرون ضرورة واقعية في زمن يضيق فيه المجال أمام اليسار التقليدي أما المعارضة اليمينية فتتعامل معه بوصفه سياسيا مراوغا يجيد فنا واحدا هو الكذب فهو موجود بسبب تحالفاته لا بسبب برنامج حكومته في الاقتصاد والصحة والسياسة والثقافة والخدمات الاجتماعية داخل المجتمع الإسباني تتأرجح صورته بين الإعجاب بقدرته على الصمود والشك في عمق تحولاته فهو بالنسبة إلى مؤيديه نموذج الزعيم العصري الذي يوازن بين العقل والعاطفة ولمنتقديه وجه دبلوماسي يكثر من الحسابات السياسية الدقيقة في أوروبا ينظر إليه باعتباره أحد آخر الأصوات اليسارية القادرة على البقاء في الحكم في زمن يميل إلى اليمين زعيما يفاوض من داخل مؤسسات الاتحاد لا من هوامشه ويتحدث لغة أوروبية منفتحة لكنها حذرة وفي الولايات المتحدة لم يكن سانشيز قريبا من إدارة ترامب التي صنفته ضمن اليسار الليبرالي الأوروبي المتردد أما في العالم العربي فقد تحولت صورته بعد موقفه من فلسطين في مايو 2024 ورأى فيه الكثيرون زعيما أعاد إلى أوروبا بعض ضميرها الإنساني بينما قرأه آخرون سياسيا براغماتيا التقط اللحظة ليمنح بلاده حضورا أخلاقيا في مشهد عالمي مرتبك بين هذه التناقضات كلها يستمر سانشيز في السقوط واقفا على قدميه تماما كما وصفه الكاتب الإسباني الشهير مياس