في صباح رمادي من شتاء واشنطن عام 2017 بدأت السماء تمطر خفيفا فوق رؤوس الحاضرين في مراسم تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة رفع الناس مظلاتهم لكن الرئيس مبتسما أمام الجماهير أعلن بلهجة الواثق إنها لا تمطر لم يكن المشهد عابرا في اليوم التالي حين واجه المتحدث باسم البيت الأبيض سيل الصور التي تثبت أن الحضور في الحفل كان أقل بكثير من حفل سلفه أوباما أصر على أن الحشود كانت الأضخم في التاريخ وحين طلب من مستشارة الرئيس كيليان كونواي تفسير هذا الادعاء قالت ببساطة أصبحت شهيرة لم تكن أكاذيب كانت حقائق بديلة تلك العبارة القصيرة كانت أشبه بصافرة إعلان لانتهاء عصر وبدء آخر كما تقول الباحثة الإسبانية ماريام مارتينيث باثكويان في كتابها نهاية العالم المشترك حنة آرندت وعصر ما بعد الحقيقة دار تاوروس مدريد 2025 وهي على حد تعبيرها لحظة ميلاد عصر ما بعد الحقيقة هذا الزمن الذي لم تعد فيه الحقيقة محور الخلاف بل صارت موضوعا للإنكار وهي لحظة صار الكذب انطلاقا منها أداة لزرع الشك في إمكان وجود الحقيقة نفسها ترى مارتينيث باثكويان أن ما يميز عصر ما بعد الحقيقة هو تشوه ملكة الحكم لدى المواطن تلك القدرة العقلية والأخلاقية التي تسمح لنا بالتمييز بين الصواب والخطأ إضافة إلى انتشار التضليل أو فيض المعلومات الزائفة لا شيء يهدد السياسة أكثر من انعدام العالم المشترك تستحضر مارتينيث باثكويان فكر حنة آرندت لتكشف خطورة هذا التحول فكما تشير آرندت في الوضع البشري إن أخطر ما يهدد السياسة هو غياب العالم المشترك الذي يجعل التفكير والفعل ممكنين هذا العالم هو الإطار الذي نرى من خلاله الواقع معا رغم اختلافنا وهذا لا يعني أنه الحقيقة وحين يتصدع هذا الإطار كما يحدث اليوم في زمن الشاشات والمنصات والانفعالات الفورية تتلاشى إمكانية النقاش ويختفي الفضاء العمومي الذي يفترض أن يجمعنا وتعود الكاتبة إلى الجذر الفلسفي لهذه الأزمة إلى لحظة أفلاطون الذي غادر الساحة العمومية بعد محاكمة سقراط ليؤسس الأكاديمية بحثا عن الحقيقة الخالصة بعيدا عن تقلبات الرأي ومنذ تلك اللحظة كما ترى بدأ مسار الانفصال بين الحقيقة والسياسة بين الفلسفة والمدينة وفي زمننا بلغ هذا المسار ذروته لم تعد الحقيقة وسيلة للفعل السياسي لقد غدت أداة للتسلط الرمزي أو للعزلة الفكرية وهنا تلتقي آرندت مع جورج أورويل الذي نبه إلى خطورة اللغة حين تتحول إلى أداة سلطة تفرض ما يجب تصديقه ومع ميشيل فوكو الذي كشف كيف تنتج السلطة أنظمة للحقيقة تشرعن ذاتها من خلالها في ضوء هذه المقارنات تظهر مارتينيث باثكويان أن أزمة ما بعد الحقيقة هي امتداد لمسار طويل من التشكيك في العلاقة بين المعرفة والسلطة وبين الكلمة والواقع لكن الكاتبة على الرغم من تشاؤم تشخيصها لا تستسلم لليأس فهي ترى أن الخروج من هذا المأزق يكمن بالدرجة الأولى في إعادة بناء الفضاء الذي يجعل التفكير والحكم ممكنين بعيدا عن فكرة استعادة الحقيقة المجردة هكذا تدعو إلى استعادة القدرة على الحوار وعلى الإصغاء وعلى ممارسة الحكم الأخلاقي في زمن يغري بالاصطفاف والانفعال فالمطلوب كما تذكر بفكر آرندت هو أن نجرؤ على التفكير لأن التفكير في ذاته فعل مقاوم