لوتشيانو بيريو النقاش المحتدم بين الأوركسترا والجوقة
٢١ مشاهدة
كان من المأمول أن يكمل لوتشيانو بيريو Luciano Berio طريقه المهني ليصبح عازف بيانو محترفا غير أن حادثا تعرض له غير مساره كليا وقاده إلى أن يكون مؤلفا موسيقيا من طراز خاص فيصبح واحدا من أبرز طليعيي موسيقى ما بعد الحداثة Avant Garde وقع ذلك عام 1944 حين استدعي الموسيقي الشاب ذو التسعة عشر عاما إلى الخدمة العسكرية في جيش بلاده الجديد بعد أقل من عام على إنشاء ما عرف آنذاك بـالجمهورية الإيطالية الاشتراكية وهي دولة دمية خاضعة بالكامل لمشيئة ألمانيا النازية وتستعد لخوض الحرب العالمية الثانية إلى جانبها ضد الحلفاء في الأيام الأولى من التحاقه وفي أثناء مشاركته في تدريب على استخدام المسدسات أصيب لوتشيانو بيريو في إحدى أصابعه إصابة بالغة أفقدته القدرة على العزف وحرمته من احتراف آلته البيانو فآثر بعد ذلك الالتحاق بصفوف كونسرفتوار ميلانو ليدرس علوم التأليف النظرية الهارموني والتوزيع الأوركسترالي والكونتربوان لم تقف مجريات الحرب العالمية الثانية ومآلاتها عند حدود حرف طموح بيريو عن العزف إلى التأليف بل أسهمت أيضا في تشكيل وعيه الفني والفكري هو وثلة من موسيقيي عصره وفنانيه الذين أصبحوا يعرفون بـمدرسة دارمشتات كانت دارمشتات المدينة الواقعة في جنوب غربي ألمانيا قد اشتهرت بعد الحرب باحتضانها التيارات الثورية في الفنون والعمارة وقد ضمت إليها المؤلف الفرنسي بيير بوليز 1925 2016 الذي شارك لوتشيانو بيريو في تحديد ملامح البصمة الصوتية للموسيقى الكلاسيكية في أوروبا وأميركا منذ خمسينيات القرن الماضي تعد كل من السوريالية والموسيقى الإلكترونية من أهم الأساليب التي تمخضت عن مجهودات مدرسة دارمشتات ولم يقف إسهام بيريو وبوليز عند حدود الشكل الموسيقي والناتج الصوتي بل تجاوزاه إلى التنظير الفكري للمرحلة المقبلة من منطلق حتمية القطيعة مع الماضي بعدما عكرت الحربان العالميتان صفاء جماليات عصر النهضة والتنوير وأثبتتا تهافت مفاهيمه الفلسفية والقيمية أما السوريالية فتتجلى ملامحها الشكلية والصوتية في عمل لوتشيانو بيريو المفصلي سينفونيا Sinfonia الذي كتب عام 1968 بتكليف من فيلهارمونية نيويورك احتفالا بمرور قرن وربع على تأسيسها وأهدي إلى القائد الأيقوني ليونارد بيرنشتاين وقد تولى المؤلف بنفسه إحياء عرضها الأول في تشرين الأول أكتوبر من العام نفسه تتألف السيمفونية من خمس حركات منفصلة صممت لتؤديها فرقة أوركسترالية كاملة العدة تضاف إليها مجموعة موسعة من الآلات الإيقاعية وثلاثة أنواع مختلفة من البيانو أحدها كهربائي ترافق الأوركسترا جوقة من ثمانية مغنين منفردين مزودين بميكروفونات يتلون قصاصات مبعثرة من نصوص أدبية عدة أثرت في الثقافة الغربية آنذاك كتبها كل من الفيلسوف الفرنسي كلود ليفي شتراوس والمسرحي الأيرلندي صمويل بيكيت لكن تلك القصاصات لا تلحن بالطريقة المتعارف عليها بل تعامل nbsp بوصفها عناصر تكوين صوتي لا توضع على ألحان بل تسند إلى نغمات تصاغ ضمن تراكيب مقطعة الأشكال تشبه في بنيتها اللغة المنطوقة وعلى المنوال نفسه تصمم الجمل الموسيقية بحيث تسمع الآلات وأصوات المغنين كأنها تتحاور وتتساجل في فوضى محسوبة تشبه أجواء المقاهي والحانات كأن النقاش المحتدم بين الأوركسترا والجوقة يمثل صدى موسيقيا للسجال السياسي الذي ساد في عواصم أوروبية عدة إبان الحراك الطلابي عام 1968 حين تحولت المظاهرات إلى مواجهات مع قوى الأمن فيما عرف بـأحداث أيار مايو المتزامنة مع حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة والاحتجاجات ضد التدخل العسكري الأميركي في فيتنام وفي ميدان المزج بين الموسيقى الطبيعية والكهربائية أي ما يعرف بـالإلكترو أكوستيك تجلى إسهام لوتشيانو بيريو الأبرز من خلال تأسيسه عام 1955 استوديو الفونولوجيا الموسيقية Studio di Fonologia Musicale أي علم الصوت كان هذا الاستوديو أشبه بمختبر تجريبي تابع لمؤسسة الإذاعة الإيطالية تجرى فيه أبحاث حول إنتاج الموسيقى إلكترونيا إما بصورة خالصة وإما بمزجها بالآلات الأكوستية التقليدية تعد المقطوعة التي أنجزها لوتشيانو بيريو عام 1958 في ذكرى الأديب الأيرلندي جيمس جويس Omaggio a Joyce باكورة جهوده البحثية داخل الاستوديو ويمكن من الناحية الأسلوبية اعتبار هذا العمل تقاطعا منهجيا مع مؤلفه الأكوستي السابق سينفونيا من حيث المقاربة اللغوية للموسيقى لا في استلهام النصوص والرموز الأدبية فحسب بل في تشكيل الموسيقى وفق أنماط تحاكي خصائص النطق البشري غير أن الوجهة في Omaggio a Joyce معكوسة إذ سجل بيريو صوت تلاوة لقصائد جويس ثم عمد إلى التلاعب بها عبر تقنيات الصوت المتاحة في زمنه مستخدما مسجلات الأشرطة فكان يبطئ التلاوة أو يسرعها ويمطها أو يخفض منسوبها الصوتي أو يرفعه ليحللها ويحولها إلى عناصر صوتية تدخل ضمن تصميم موسيقي محكم موجه فكريا ومن الاستماع إلى هذين العملين المفصليين سينفونيا وأوماجيو اللذين يجسدان الميدانين التعبيريين اللذين سخر لوتشيانو بيريو حياته لهما أي الموسيقى الأكوستية الطبيعية والإلكترونية الصناعية يمكن استنباط السمتين الأساسيتين اللتين ميزتا الموسيقى الكلاسيكية الغربية ما بعد الحداثة تحت تأثير مآلات الحربين العالميتين والحرب الباردة السمة الأولى هي التفكيك سواء على الصعيد الأسلوبي بنقض البنى الموسيقية النسقية والخطوط اللحنية الخطية والاستعاضة عنها بتراكيب تبرز الخواص اللونية والفيزيائية للصوت بوصفه مادة أولية ومكونا أساسيا أما السمة الثانية فهي التسييس إذ إن الفنون والموسيقى في مقدمتها بحسب رؤى بيريو وزملائه من مدرسة دارمشتات ينبغي أن تحمل بمضمون سياسي يهدف إلى تغيير المجتمع ومقاومة مؤسسات القهر والاستغلال أما الطرب فلئن يؤخذ به فينبغي له في أحسن الأحوال أن يبقى وسيلة لغاية