في أحد الأيام الماضية نجت بقرة من الموت إذ تمكنت في لحظة هلع من القفز فوق حاجز معدني في أحد مسالخ سويسرا أنقذتها إرادتها في البقاء وكانت منذورة للذبح مثل سائر الحيوانات من أبناء جنسها غير أنها أفلتت من هذا المصير ما قامت به أثار دهشة العاملين في المسلخ فقرروا حرصا على حياتها أن يعفوا عنها ونقلوها إلى ملجأ غنادنهوف بابيون المخصص لحماية الحيوانات المعذبة أو المهددة هي التي أطلق عليها اسم تيلدا تعيش اليوم حرة طليقة أما بقية الأبقار وإن قاومت وقفزت مثلها فوق الحاجز فلن يرأف بها أحد بالطبع تيلدا كانت الاستثناء الذي لا يتكرر nbsp ويقدر عدد الحيوانات التي تذبح يوميا على المستوى العالمي بعدة مليارات عندما نحصي الكائنات البحرية وبمئات الملايين فقط إذا حصرنا العد في الحيوانات البرية nbsp ثمة في أنحاء العالم كما الحال في مطاعم مخصصة للمأكولات البحرية في شرق آسيا حيوانات لا تزال تطهى وهي حية وبعضها الآخر يؤكل وجهازه العصبي ما زال نشطا في مناطق من الصين واليابان وكوريا وفيتنام بل وفي بعض الدول الغربية تقطع الضفادع والأخطبوطات والثعابين وجراد البحر وسرطان البحر اللوبستر وهي تتنفس لتستخدم في أطباق يعتقد أنها تجدد الطاقة أو تغذي القوة الجنسية وكذلك في أنواع من السوشي الحي حيث تحضر الأسماك وهي تنازع nbsp ظهرت الفكرة الفلسفية بأن الحيوان ليس شيئا بل كائن يعي الألم في الأزمنة البدائية والزراعية الأولى لم يكن ليطرح السؤال حول أكل الحيوان لأن الإنسان كان يرى نفسه جزءا من دورة الطبيعة يصطاد ليعيش تماما كما تفعل الحيوانات المفترسة وقد شهدت بعض الحضارات والأديان طقوسا مقدسة للذبح وثمة فلاسفة كأفلاطون طرحوا فكرة مفادها أن للحيوان روحا وأن قتله يخل بتوازن الكون في زمن لاحق قال الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي لقد امتنعت منذ صغري عن أكل اللحم وسيأتي وقت ينظر فيه الناس إلى قتل الحيوانات كما ينظرون الآن إلى قتل البشر بعد أكثر من خمسة قرون على هذا الكلام روى الكاتب الأرجنتيني بورخيس أنه حين كان طفلا كان يسمع والده يردد أن البشر سيمتنعون في يوم قريب عن أكل اللحوم ويضيف الكاتب الأرجنتيني مر الزمن وأدركت أن نبوءة والدي لم تتحقق ولا يبدو أنها ستتحقق قريبا nbsp مع تطور الفكر الإنساني والعلمي خصوصا بين القرنين التاسع عشر والعشرين ومع ازدياد حركات الرفق بالحيوان بدأ السؤال الأخلاقي يأخذ طابعا جديدا وظهرت الفكرة الفلسفية التي تقول إن الحيوان ليس شيئا بل كائن يعي الألم في القرن العشرين ولا سيما بعد الحربين العالميتين أخذت النظرة إلى الحيوان تتبدل فصار في نظر بعض المفكرين والفنانين مرآة لإنسانيتنا وبلغ الوعي بألمه ذروته مع انتشار المعلومات حول المسالخ الصناعية nbsp وتجرى اليوم أبحاث متقدمة في علم الأعصاب والسلوك تثبت أن الحيوانات تشعر وتتذكر وتكون روابط وجدانية مما يعمق الحس الأخلاقي تجاهها كما أكدت الدراسات العلمية الحديثة الطبية منها والبيئية أننا قادرون على العيش من دون اللجوء إلى ذبح الحيوان بل وأظهرت هذه الدراسات أن هذا النمط من العيش قد يكون أكثر فائدة للإنسان وللكوكب معا قطاع تربية الماشية مسؤول عن قرابة 14 5 من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة nbsp هكذا دفعت المعرفة العلمية الوعي الأخلاقي إلى الأمام ولم نعد نتحدث عن الحيوان كشيء ثانوي في الكون بل كجزء من شبكة حياة إذا أخللنا بها فإننا نسيء إلى أنفسنا أيضا وهناك فلاسفة وعلماء بيئة يعتبرون أن استمرار الهيمنة على الكائنات الأخرى يعني استمرار منطق السيطرة ذاته الذي يمارسه الإنسان ضد الإنسان وهذا ما تحدثت عنه عالمة الأنتروبولوجيا والسلوك الحيواني جين غودال التي توفيت في الأول من أكتوبر تشرين الأول من العام الجاري عن عمر ناهز 91 عاما nbsp كانت هذه العالمة البريطانية ترى أن الحيوان هو الذاكرة الحية للأرض يحمل في جسده وسلوكه طبقات عميقة من التاريخ الطبيعي وأن الإنسان ليس سيدا جاء ليهيمن ويستبيح بل ضيف متأخر على مائدة الحياة سبقه إليها الحيوان منذ ملايين السنين فالقرابة بين الإنسان والحيوان ليست مجازا بل حقيقة نحن وهو خرجنا من الرحم الكوني نفسه من هنا إذا اكتشف الإنسان يوما هذه الحقيقة بكل عمقها وأبعادها المختلفة فلن يرى في الحيوان كائنا أدنى بل أخا أقدم أو رفيقا يذكره بأصله وبالماء الأول الذي انبثق منه كل شيء nbsp الإنسان ليس سيدا جاء ليهيمن بل ضيف متأخر على مائدة الحياة nbsp ضمن هذا المنطق لم يعد احترام الحيوان غاية بيئية فحسب بل أصبح تمرينا على استعادة إنسانيتنا بحسب تعبير غودال الدائم حين نعامل الحيوان برحمة نعيد إلى أنفسنا ما فقدناه من إنسانية nbsp يمر الجنس البشري اليوم بإحدى أكثر لحظاته صعوبة وتعقيدا وهذا ما يتجلى خصوصا من خلال صراعه مع الأرض والطبيعة والبيئة والماء وحتى مع الهواء الذي يتنفسه ليعيش ثم ينقض بعدائية غريبة ونادرة على مظاهر الحياة الأكثر ضرورة والأعمق جمالا nbsp وفي المقابل لا نزال نتحدث عن التقدم الذي يتبدل مفهومه هو أيضا فلا يعود كما كان وعد الخلاص المرتجى بل نقيض هذا الوعد عندما تستولي عليه قوى السلطة والجهل والخراب لذلك فالسؤال المطروح الآن حول طبيعة علاقتنا بالحيوان وبالكائنات الحية الأخرى لا يقتصر على الحيوانات فحسب بل هو سؤال تحدد طريقة الإجابة عنه مصير الإنسان على الأرض هذه الأرض التي يقول عنها عالم الأنتروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستروس إنها وجدت قبلنا بملايين السنين وستبقى بعدنا ملايين السنين كاتب لبناني مقيم في باريس