مع حلول الذكرى الثانية لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة تبدلت خريطة المواقف في أوروبا على نحو دراماتيكي من موقف رسمي داعم بالكامل لإسرائيل إلى موجات تضامن شعبي ونقابي وثقافي آخذة بالتصاعد أصبحت معها القارة الأوروبية ساحة مواجهة أخلاقية بين الضمير الشعبي والتواطؤ الحكومي عامان كانا كفيلين بخلخلة السردية الإسرائيلية داخل الوعي الأوروبي بالطبع بأثمان فلسطينية هائلة على مستوى الأرواح والتدمير في غزة فما كانت تبرره الحكومات لإسرائيل تحت عنوان الدفاع عن النفس بات يوصف اليوم بـجرائم الإبادة في خطاب سياسي يتقدم ببطء بينما الشارع يسبقه بخطوات واسعة من الصمت إلى تمرد الشارع في الأشهر الأولى للحرب على غزة انحازت معظم العواصم الأوروبية بشكل مطلق لإسرائيل تحت غطاء الدفاع عن النفس وسط صمت رسمي عن المجازر والتهجير والتجويع في غزة لكن صور الأنقاض وشهادات المستشفيات المدمرة ونداءات المحاصرين كسرت هذا الصمت لتخترق الرواية الفلسطينية جدران الإعلام والشارع الأوروبيين مؤكدة أن القصة لم تبدأ في السابع من أكتوبر تشرين الأول 2023 يمكن تقسيم مراحل المواقف من إسرائيل على الشكل التالي المرحلة الأولى أكتوبر ديسمبر كانون الأول 2023 صدمة وشيطنة قمع التظاهرات واعتقال نشطاء رفعوا العلم الفلسطيني ومثلت برلين نموذجا فجا في هذا السياق المرحلة الثانية يناير كانون الثاني يونيو حزيران 2024 بداية التمرد واحتجاجات طلابية ومقاطعات أكاديمية تظهر في أوروبا الغربية في الأشهر الأولى للحرب على غزة انحازت معظم العواصم الأوروبية بشكل مطلق لإسرائيل المرحلة الثالثة يوليو تموز ديسمبر 2024 تصعيد شعبي ونقابي وقانوني موانئ تغلق ونقابات ترفض نقل السلاح أضف إلى ذلك استصدار مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير الأمن الإسرائيلي السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب ومواصلة ملاحقة جنوب أفريقيا للاحتلال أمام محكمة العدل الدولية بتهم ارتكاب إبادة جماعية المرحلة الرابعة عام 2025 التنظيم وتوسيع التأثير حضور فلسطين في الفعاليات الفنية إطلاق أسطول الصمود اعترافات أوروبية بدولة فلسطين وسحب استثمارات كبرى كما شهدت المرحلة الأخيرة خطوات عملية منها تمرير البرلمان الإسباني قرارات تطالب بوقف تصدير السلاح لإسرائيل وتنامي مطالب تجميد أوروبي لاتفاقية الشراكة مع الاحتلال وقد أعلنت النرويج سحب استثمارات الصندوق السيادي من شركات إسرائيلية بسبب تورطها في انتهاكات من جهتها شهدت بريطانيا انسحاب صناديق تقاعد وجامعات من شركات تسليح مرتبطة بالاحتلال وكذلك زحزحة في مواقف برلين على النسق ذاته وإن كان بكثير من التردد بسبب تعقيدات التاريخ النازي وشهد العام الحالي تزايد مطالب بالمقاطعة وفرض عقوبات أوروبية بحق الاحتلال الإسرائيلي النقابات صوت الضمير دخلت بعض النقابات الأوروبية على خط التضامن مع غزة وفلسطين وأصبحت جزءا من المشهد المتوجه نحو محاصرة روايات ومكانة دولة الاحتلال الإسرائيلي أوروبيا ويمكن إيراد بعض الأمثلة على تلك التحركات ما يجمع بين هذه التحركات استقلالها عن السلطة السياسية واعتمادها خطابا أخلاقيا في إيطاليا رفضت نقابة ميناء جنوة CALP تحميل سفن تنقل أسلحة إلى إسرائيل رسالتهم لسنا أدوات للإبادة وتلقى موقف النقابات دعما من عمدة جنوة سلفيا ساليس التي تهتف بنفسها لحرية فلسطين وفي إسبانيا نفذت نقابة CGT إضرابات تضامنية وشاركت في أسطول الصمود ليتكامل موقفها مع الموقفين الشعبي والرسمي الذي يعبر عنه رئيس الحكومة بيدرو سانشيز وفي النرويج طالبت نقابة العمال الوطنية LO بوقف التعاون العسكري أما في بلجيكا فنظمت النقابات قوافل إغاثية وشاركت بحملات بي دي أس للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفي الدنمارك والسويد برز دعم نقابي مباشر لموظفين وأكاديميين فصلوا بسبب مواقفهم المؤيدة لفلسطين ما يجمع هذه التحركات هو استقلالها عن السلطة السياسية واعتمادها خطابا أخلاقيا يرفض تحويل العمال إلى أدوات دعم لمشاريع الاحتلال مشددة على تصعيدها نموذج المقاومة المدنية في وجه سياسات الاحتلال باعتبارها دولة أبرتهايد فصل عنصري هذا رغم الأثمان التي يدفعها متخذو المواقف المساندة لفلسطين سواء بالتضييق أو الفصل من الوظائف تلك التحركات أعادت الشرعية لحركة المقاطعة بي دي أس بعد محاولات تجريمها الجامعات جبهات احتجاج على حرب غزة تحولت الجامعات إلى ساحات مركزية للاحتجاج على حرب الإبادة في غزة من السوربون في باريس إلى أمستردام ولاهاي وصولا إلى جامعات في سويسرا والدنمارك وبالطبع الولايات المتحدة تصاعدت الاعتصامات الطالبية ورفعت أعلام فلسطين وارتفعت المطالب بقطع العلاقات الأكاديمية مع إسرائيل رغم محاولات قمع وشيطنة الحراك وتهديد بالفصل والترحيل من الجامعات أمر ساهم في تعميق الوعي بالحق الفلسطيني وعدالة قضيته في لاهاي نظمت حركة Red Line خط أحمر واحدة من أكبر الاحتجاجات الطلابية جمعت مئات الآلاف وأجبرت البرلمان الهولندي رغم أنف اليمين المتطرف على فتح نقاش واسع حول التعاون العسكري والعلمي مع إسرائيل في بريطانيا شملت التحركات جامعات مثل أكسفورد وكامبريدج وغلاسكو حيث نفذ الطلاب اعتصامات واحتلالات لمبان جامعية مطالبين بكشف الاستثمارات المرتبطة بإسرائيل وقطع العلاقات معها جامعة كامبريدج سعت إلى إصدار أمر قضائي لمنع الاحتجاجات ما أثار جدلا قانونيا حول حرية التعبير هذا الزخم الطلابي ساهم في دفع النقاش البرلماني البريطاني نحو مساءلة الجامعات عن علاقتها بالصناعات العسكرية وأعاد رسم الحدود بين الأمن وحرية التعبير أميركا نار تحت رماد الجامعات منذ إبريل نيسان 2024 شهدت الجامعات الأميركية موجة احتجاجات غير مسبوقة دعما لغزة في جامعة كولومبيا بنيويورك أنشأ الطلاب مخيم اعتصام Gaza Solidarity Encampment مطالبين بإنهاء الشراكات مع إسرائيل ردت الإدارة بالقمع ودعت الشرطة لتفريق الاعتصام ما أسفر عن اعتقالات جماعية تبعتها عقوبات أكاديمية بحق العشرات يوليو تموز 2025 تكرر السيناريو في جامعات مثل تكساس أوستن وكاليفورنيا إيرفين حيث واجهت الاعتصامات تدخلا أمنيا عنيفا وتعرض الطلاب لعقوبات وتأديب فيما رفعت دعاوى قضائية تتهم الجامعات بانتهاك حقوق الطلاب وفي جامعة فيرجينيا استخدمت الشرطة رذاذ الفلفل لفض اعتصام واعتقل عدد من الطلاب في جامعات أخرى مثل أميركان نورثويسترن وبراون تراوحت الاستجابات بين الحوار الجزئي مع الطلاب ومناقشة الانسحاب من شركات إسرائيلية وتقديم منح أو تسهيلات لطلاب فلسطينيين رغم القمع شكلت هذه الاحتجاجات تعبيرا واضحا عن صعود وعي طلابي يرى في القضية الفلسطينية رمزا لمناهضة الاستعمار والعنصرية ويدفع باتجاه مساءلة المؤسسات عن علاقاتها السياسية والمالية فتح هذا الحراك الباب لنقاش عميق حول تمويل الاحتلال على حساب دافعي الضرائب أسطول الصمود رسالة بحرية تتخطى الحدود في صيف 2025 أبحر أسطول الصمود العالمي من موانئ في إيطاليا وإسبانيا وتونس حاملا مساعدات ونشطاء وبرلمانيين من 44 دولة في محاولة جديدة لاختراق الحصار على غزة بعد محاولة أسطول مادلين منتصف العام ذاته أبحرت عشرات السفن والمراكب بمشاركة نقابات ومنظمات حقوقية وشخصيات فنية وسياسية وأكاديمية ضمن رسالة موحدة فلسطين ليست وحدها إسرائيل ليست فوق القانون التغطية الإعلامية الواسعة والمتابعة الحقوقية وضعت الحصار الإسرائيلي في قلب الأجندة الأوروبية محولة الحدث من مجرد قافلة إنسانية إلى تحد عابر للحدود لكشف فشل منطق الحصار ولإعادة تعريف التضامن كفعل مقاومة مدني منسق وعالمي السردية الصهيونية من الحصانة إلى العزلة استندت إسرائيل لعقود إلى تحصين خطابها بناء على إرث المحرقة وشعاري معاداة السامية والدفاع عن النفس لكن مع صعود خطابها العلني المحرض على الإبادة وتوثيق المجازر بدأ هذا الغطاء بالتآكل ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا حاسما في تفكيك الدعاية الإسرائيلية كما بات الجيل الأوروبي الجديد يربط فلسطين بقيم العدالة والمساواة ويرى الاحتلال امتدادا لاستعمار عنصري استيطاني وبدأت حالات رمزية تظهر حالات نبذ اجتماعي مطاعم ترفض استضافة وفود إسرائيلية مقاطعات فنية ومطالب بإقصاء إسرائيل من فعاليات مثل يوروفيجن وسباقات رياضية دولية لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا حاسما في تفكيك الدعاية الإسرائيلية من المؤشرات على بداية العزلة سحب استثمارات من الصندوق السيادي النرويجي صناديق تقاعد وجامعات بريطانية إضافة إلى المقاطعة الأكاديمية فعشرات الجامعات ألغت شراكات مع مؤسسات إسرائيلية كذلك تغير المزاج الشعبي فاستطلاعات رأي أظهرت تراجع دعم إسرائيل مقابل صعود تأييد فلسطين وتغير نبرة التغطية الإعلامية لقضية فلسطين في المجال الثقافي برزت انسحابات من مهرجانات داعمة لإسرائيل مثل Docaviv ومطالب بمنع مشاركتها في فعاليات كـيوروفيجن وباستبعادها من فعاليات رياضية كسباقات الدراجات والشطرنج وكرة القدم وبناء عليه الضغط الشعبي والنقابي لم يبق رمزيا بل بدأ يؤثر في قرارات سيادية وهو ما قد يؤسس برأي حركة التضامن لحملة مقاطعة واسعة على غرار ما جرى مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سابقا من عزلة فلسطين إلى عزلة إسرائيل ما بين أكتوبر 2023 وأكتوبر 2025 انقلب المشهد لم تعد فلسطين محاصرة بل باتت إسرائيل تواجه حصارا رمزيا وأخلاقيا وشعبيا متزايدا حتى داخل معسكر حلفائها الغربيين الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه أقر بتراجع صورة إسرائيل مركزا جهوده على إنقاذها من العزلة فجيل جديد من الأوروبيين والغربيين عموما بات يرى في القضية الفلسطينية مرآة لقضايا أخرى مقاومة العنصرية مواجهة الاستعمار والفاشية الجديدة التغير المناخي والتضامن الإنساني وبات جيل جديد من الغربيين يرى في فلسطين مرآة للنضال ضد العنصرية الاستعمار التغير المناخي والفاشية الجديدة العدالة لفلسطين لم تعد خيارا بل ضرورة أخلاقية كما رفعتها إحدى اللافتات في برلين انتشرت خريطة الحراك التضامني مع فلسطين في مدن أوروبية كبرى كل منها عبر عن نبض الشارع بطريقته في لندن مئات الآلاف خرجوا ضاغطين على حكومة كير ستارمر وفي روما نقابة الشحن أوقفت نقل سلاح وعرفت برلين أكبر تظاهراتها منذ سنوات رغم التضييق الأمني كما شهدت لاهاي احتجاجات ضخمة والجامعات أصبحت بؤرا لاعتصامات وفي باريس تواصلت الاحتجاجات ووقع أكثر من 200 مثقف على دعوة للمقاطعة الثقافية أما في اسكندنافيا فتواصل الحراك سواء في الشارع أو على مستوى النخب الداعية للمقاطعة والعقوبات التحول امتد إلى أميركا الشمالية أستراليا وأميركا اللاتينية حيث يختزل دعم الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو لفلسطين أغلبية المواقف اللاتينية كذلك ساهمت موجات التضامن هذه في تباين مواقف أوروبا الرسمية إذ طرحت دول كإسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا مقترحات على المفوضية الأوروبية بتعليق الاتفاقات التفضيلية مع إسرائيل بينما علقت ألمانيا والمملكة المتحدة ولو جزئيا صادرات أسلحة وتوسعت دعوات فرض قيود على التعاون الاقتصادي معها وبينما تتردد الحكومات يفرض الشارع الأوروبي إيقاعا جديدا من الضغط عبر النقابات الجامعات وحملات المقاطعة تحركات الموانئ المصانع والجامعات تعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الاختبار الأخلاقي للغرب وقد زاد من حيوية هذا الحراك توثيق الجرائم في غزة وانتشارها عبر وسائل التواصل الاجتماعي مدفوعا بجيل شبابي يرى في فلسطين مرآة للعدالة العالمية ضد العنصرية والاستعمار أفق التضامن في غضون عامين خرجت فلسطين من الهامش الرمزي إلى قلب الحراك الشعبي والسياسي في الغرب ومن زاوية التضامن الموسمي إلى صلب الحركة الاجتماعية في أوروبا ما بدأ بمواقف فردية تحذر من المجازر تحول إلى تيار منظم يقوده طلاب نقابيون وأكاديميون ويفرض نفسه قوة ضغط متصاعدة على صانعي القرار هذا التحول لا يبشر بتغير لحظي فحسب بل بإعادة تموضع طويلة الأمد للقيم الغربية من التواطؤ مع الاحتلال إلى الانحياز الواضح للعدالة والحرية أفق التضامن يبدو أعمق وأوسع ومرشح لأن يحدث تأثيرا سياسيا فعليا خاصة مع صعود جيل جديد يتبنى فلسطين قضية مركزية من الميناء إلى المخيم نحن مع فلسطين هتفها عمال ميناء جنوى في إيطاليا وفي هذا الهتاف تكتب صفحة جديدة من تاريخ التضامن العالمي بعد عامين من حرب الإبادة