في إحدى اللقطات التي تناقلتها وسائل إعلام كثيرة تظهر طفلة فلسطينية مصابة وهي تسأل الطبيب الذي يعالجها عمو هيدا حلم ولا بجد ثم تكرر السؤال هيدا حلم ولا حقيقة هذا السؤال الصعب يختصر أحوال زمن الحرب الذي تتلاشى فيه المسافة بين الحياة والموت رؤية الفتاة بل حركاتها وملامح وجهها وهي تلتفت نحو الطبيب تعجز عن صوغه الكلمات الصورة هنا لا تحتاج إلى ترجمة أو وساطة لأنها تنقل الجرح العاري التجربة الحية ورعبها المطلق وجه طفل مغطى بالغبار أبنية مهدمة يد ممدودة من تحت الأنقاض ومجاري الدماء كلها تنفذ مباشرة إلى العين بلا حواجز الصورة تصدم تختصر وتعري الواقع في لحظة واحدة لكن في المقابل الكلمات تستطيع أن تعيد بناء المعنى وأن تحول الألم إلى شهادة nbsp الصورة هنا في جوهرها سلاح ضد النسيان وهي كالكتابة توثق وتشهد وتقول لا لتجريد الإنسان من إنسانيته ولا للمحو ولا لإخفاء الجريمة وتغطيتها بالنسيان كأنها تمنح الضحية حياة ثانية وتجعل من موتها معنى لا مجرد رقم وحدث عابر صحيح أن الصورة تصنع الذاكرة الجماعية للحرب لكنها في الوقت نفسه ومن خلال استعمالها وطريقة التعامل معها قد تحول المأساة إلى مشهد استهلاكي يفرغ من معناه وبفعل التكرار أيضا يتحول الرعب إلى شيء مألوف يشكل خلفية لحياتنا اليومية فيصبح بإمكان الإنسان أن يتناول عشاءه بينما تعرض أمامه على الشاشة الصغيرة جثثا مقطعة أو مشاهد مؤلمة من كل صنف ونوع nbsp وهذا ما تلاحظه الكاتبة والباحثة الأميركية سوزان سونتاغ في كتابيها عن الصورة الفوتوغرافية وألم الآخرين حيث تقدم تحليلا للتغيرات العميقة التي أحدثتها الصورة الفوتوغرافية في طريقة رؤيتنا للحياة ولأنفسنا فالصورة ليست وسيلة تقنية للتوثيق فحسب بل هي أيضا أداة إدراك وتفكير تترك أثرها على علاقتنا بالعالم والواقع والذاكرة nbsp الصورة ليست وسيلة للتوثيق فحسب بل أداة إدراك وتفكير تقول سونتاغ إن الفوتوغرافيا الحربية ليست مجرد توثيق بل هي أيضا جزء من الوعي الجمعي والسياسي وعبرت في الكتابين عن خشيتها من اعتياد المشاهد على صور المأساة فلا يعود يراها في أحيان كثيرة بوصفها حدثا يعنيه شخصيا أو يتطلب موقفا منه بالنسبة إلى الكاتبة قد يكون سبب هذا التبلد أيضا الإحباط التاريخي وهذا ما يجعل الناس يتقبلون الجريمة وكأنها قدر لا مهرب منه إن تصوير المأساة منذ الحربين العالميتين مرورا بحرب فيتنام وصولا إلى ما يجري في غزة وأوكرانيا يجعل صور الدم والدمار تدخل كل بيت وبالتالي أصبح العالم يشاهد المأساة كما لو كانت مشهدا بصريا لا حدثا سياسيا أو إنسانيا nbsp حكاية الصورة في الحرب لا تختصر الحكايات كلها الصحيحة والمزورة نحن اليوم في عالم تطغى الصورة على ما دونها في السياسة والاقتصاد والأزياء والموضة والرياضة والاستعراضات كافة وأمست باستعمالاتها غير المحدودة من رموز هذا العصر كما دخلت في السرعة الرقمية التي لا يمكن أن نرى من خلالها شيئا بعمق الحوادث والأخبار والعلاقات قوس قزح بألف لون سرعان ما يختفي ليترك وراءه حاضرا بلا ذاكرة ومستقبلا ضائعا وراء الأفق هكذا لا يعود الواقع سلسلة من الأحداث المتتالية بل مجموعة أحداث مقتطعة من سياقها التاريخي داخل هذا الطوفان الهائل من الصور والمعلومات والذي لم يسبق له مثيل يصبح العالم شاشة وحسب وتفقد الأشياء وزنها وتترنح أمامنا ونحن معها نترنح ولا يعود في استطاعتنا أن نميز بين الواقع وصورته أما الشاشات الصغيرة التي لا تفارق أيدينا فتختزن كمية قياسية من الصور وهذه الشاشات هي أمكنة إقامتنا الفعلية وعناويننا ومخابئ أسرارنا المفضوحة وحين نضيئها ونعبر ممراتها ومتاهاتها اللامتناهية قلما نقرأ ما يرد فيها لكننا نلمح الصور المتدافعة الواحدة تلو الأخرى تمحوها وتقفز فوقها وفي سياق البحث عن شيء لا نعرف ماهيته تستوقفنا بعض تلك الصور أحيانا نتأملها ثم نتابع السعي مسرعين ولا ننتبه إلى أننا نعيش العالم عبر الصور أكثر مما نعيشه مباشرة في الواقع nbsp ضمن هذا المدى يفتح لنا الإنترنت في لحظة واحدة أبواب العالم أجمع صورا وتسجيلات ووثائق ويوحي إلينا ونحن نختلي به في غرفنا المقفلة بأننا داخل فضاء من الحرية الكاملة والأمر ليس كذلك إضافة إلى أنه يبرمج في غفلة منا وبدقة تفوق الخيال رغباتنا وعواطفنا وما نتحسس ونتذوق أي ما نحسب أنه يشكل الجانب الحميم في حيواتنا الخاصة ثمة حاجة متزايدة لدى الناس إلى الصور واستهلاكها وتكديسها لقد أصبحت الصورة في المجتمع الحديث معلما أساسيا من اقتصاد الإغواء والتسليع ومن ثقافة الاستهلاك ككل ينظر إليها البعض بصفتها نوعا من الإدمان فثمة حاجة متزايدة لدى الناس إلى الصور واستهلاكها وتكديسها ويكمن سحر الصورة والانجذاب إليها في قدرتها على التقاط اللحظة الهاربة نسجلها ونحفظها هي اللحظة الآنية التي سرعان ما تصبح من الماضي وهي أيضا صورتنا بعد الموت وشعورنا بالسيطرة المتوهمة على الزمن وحيال هذا الواقع تجد البشرية نفسها الآن أمام حقائق جديدة أكثر خطورة مما كانت عليه في السابق من جانب آخر تحولت الصورة الفوتوغرافية فنا قائما بذاته ثمة عيون تنظر بنفاذ فلا تكتفي بإعادة إنتاج الواقع بل تسعى إلى خلق عوالم جديدة تأخذه أبعد من الظاهر وتتجاوزه حين يكون المشهد انعكاسا لرؤية جمالية تصبح معها الصورة عملا فنيا يحضر في المتاحف وتخصص له المعارض في كل مكان أخيرا تبقى صورة الفرد حيال نفسه وهي صورة ملتبسة وشديدة الخصوصية نحاول من خلالها أن نمسك باللحظة العابرة وأن نحتفظ بها في الحواسيب الحديثة أو في مكان ما من الذاكرة أليست كما يقول الكاتب والناقد الأدبي والسيميائي الفرنسي رولان بارت شهادة على لحظة لن تعود أبدا كاتب لبناني مقيم في باريس