الديمقراطية تحت المجهر الفلسفي

٧ مشاهدات
الديمقراطية ليست مجرد نمط سياسي من أنماط الحكم بل هي بنية وجودية للإنسان في علاقته بذاته والآخر بوصفه كائنا يعي حريته ويسعى لتجسيدها ضمن المجال العام إن ما يطلق عليه اسم الديمقراطية ليس نظاما جاهزا قابلا للتصدير أو الاستنساخ بل هو تعبير عن سيرورة حضارية تتأسس على تصور مخصوص للسلطة وللكرامة ولإمكان الاجتماع البشري في ظل تعدد لا ينقلب إلى فوضى ووحدة لا تنحدر إلى استبداد تعرف بأنها حكم الشعب لكن هذا القول يخفي إشكالا بنيويا في تعريف من هو هذا الشعب ومن الذي يملك سلطة تمثيله بل ما الذي يمنح هذا التمثيل شرعيته فحين يغدو الشعب كتلة صامتة يتم النطق باسمه فإن فكرة الديمقراطية تنهار من الداخل ليست المسألة إذا في تداول السلطة وحسب بل في الكيفية التي يعاد فيها بناء المجال السياسي على مبدأ الاعتراف أي الاعتراف المتبادل بين الذوات الحرة لا على أساس القوة أو الغلبة أو الانتماء بل على قاعدة المساواة في القيمة والحق والكرامة إن المنشأ التاريخي للتجربة الديمقراطية ليس مجرد ظاهرة أو واقعة سياسية تعود إلى مدينة قديمة بعينها بل هو سؤال فلسفي قديم قدم الفكر الإنساني كيف يمكن للحرية أن تنتظم كيف يمكن للإرادة الجماعية أن تتشكل دون أن تنفي الفرد ودون أن تنقلب إلى إرغام باسم الكل الأكثرية إن هذا الاضطراب بين الإرادة الفردية والإرادة الجمعية هو جوهر الإشكال الديمقراطي فلا وجود لحل جذري أو نموذج مكتمل بل هناك دائما تفاوض مستمر بين الحريات وصدام ناعم بين الرغبة في المشاركة والخوف من الفوضى وبين الضرورة إلى السلطة والحذر من التسلط الديمقراطية إذا ليست صناديق اقتراع ولا انتخابات منتظمة ودورية ولا تداولا صوريا في مواقع القرار كل تلك العناصر أدوات فقط قد توجد وتفرغ من محتواها إذا لم تستند إلى ثقافة عميقة تؤمن بالتعدد والتنوع وتربي على الحوار والتواصل وتحمي الاختلاف لا بوصفه تهديدا بل باعتباره جوهر التعايش والسلم الأهلي فالمعيار ليس في وجود آلية تصويت بل في مدى حضور الفرد في فضاء المواطنة والشعور بالانتماء بوصفه كائنا يسهم في صناعة المصير لا مجرد متلق لقرارات لا يفهمها أو متفرج على مسرح سياسي لا يجيد لغته الأخطر من الاستبداد السياسي هو الاستبداد الأخلاقي حين تتحول الجماعة إلى مرآة ضاغطة تجبر الفرد على الانصهار في كليتها وتخنق صوته تحت وطأة ما يفترض أنه الصالح العام في التجارب والمحاولات السياسية كثيرا ما يختزل هذا التصور فتغدو الديمقراطية ستارا لإعادة إنتاج السيطرة من خلال التحكم في أدوات التأثير الإعلام التعليم المال والخطاب العام وحين يتم توجيه إرادة الجمهور دون وعيهم فإن الآلية الديمقراطية تصبح محاكاة زائفة للحرية وتغدو المشاركة مجرد طقس سياسي بلا روح لا يمكن إذا الحديث عن ديمقراطية أصيلة دون استقلال الفكر والمعرفة ونزاهة المؤسسات وشفافية السلطة ذلك أن القبول الشعبي لا يمنح الشرعية إلا عندما يكون ناتجا عن وعي لا عن خوف أو تضليل أو جهالة يفترض أن تكون الديمقراطية آلية للحد من السلطة وتقليص هيمنتها دون تكريسها واستدامتها وأن تبقى مجالا مفتوحا لإعادة التفاوض المستمر حول القيم والمعايير والقرارات لا منظومة مغلقة تتحصن وراء شعارات وإذا كانت السلطة ميلا طبيعيا لدى الإنسان فإن الديمقراطية هي الأداة الأخلاقية والسياسية التي تكبح هذا الميل عبر توزيع القوة وإخضاعها للمساءلة وتقييدها بالمبادئ لا بالمصالح غير أن الأخطر من الاستبداد السياسي هو الاستبداد الأخلاقي أو الرمزي حين تتحول الجماعة الكل إلى مرآة ضاغطة تجبر الفرد الجزء على الانصهار في كليتها تلغي وتخنق صوته تحت وطأة ما يفترض أنه الصالح العام هنا تغتال الديمقراطية باسم التوافق ويقمع التنوع والاختلاف باسم الوحدة ويعاد إنتاج الإقصاء في صورة الإجماع لذا فإن جوهر الديمقراطية هو الاحتقان الدائم بين الوحدة والتعدد بين العقل والإرادة بين الحسم والاحتمال بين القرار والحوار وبما أن الديمقراطية ليست منتجا أو حلا نهائيا فهي مشروطة دوما بالسياق الاجتماعي والثقافي والسياسي والتاريخي ولا تنفصل عنها لا يمكن استيرادها كما تستورد الآلات والبضائع ولا تزرع في أرض لم تهيأ لها هي فعل ثقافي قبل أن تكون إجراء سياسيا لذلك فإن فشل الديمقراطيات الشكلية لا يدين الفكرة بل يكشف هشاشة الشروط التي أقيمت فيها فالعدالة لا تتحقق بالنيات بل بالبنى والحرية لا تمارس في الفراغ بل ضمن شبكة من القوانين والمؤسسات التي تحميها وتمنحها معناها كما أن الديمقراطية ليست خلاصا ولا وعدا بالفردوس لكنها الوسيلة الأقل سوءا لصيانة الكرامة وتنظيم الاختلاف وصون الحريات وضبط القوة فيها يصبح الخطأ والتصحيح واقعين هي الشكل السياسي الوحيد الذي يعترف بإمكان الخطأ ويؤسس إمكانيات تصويبه من الداخل لا بالانقلاب بل بالتداول لا بالعنف بل بالاقتراح فيها لا أحد يمتلك الحقيقة ولا أحد يقصى لمجرد أنه مختلف إنها ليست انتصار رأي على آخر بل هي بقاء الإمكانية مفتوحة لأن يتغير كل شيء في عالم تتزايد فيه الأصوات التي تجمل الاستبداد بذريعة الفاعلية وتشوه مفهوم الحرية باسم الأمن وتشكك في العقل الجمعي للشعب باسم الجهل فإن الدفاع عن الديمقراطية لا يكون تكرارا لشعارات قديمة بل تجديدا دائما للمفاهيم وسعيا لتحرير الإنسان من الخوف والتبعية واللامبالاة ليست الديمقراطية مجرد حكم أو سلطة سياسية بل امتحان دائم للوعي وإعادة تأسيس مستمرة لمعنى إمكانية العيش المشترك

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2025 أحداث العالم