في خطوة استثنائية في السياسة البريطانية تجاه ما يسمى بالشرق الأوسط نشر رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في الـ22 من سبتمبر أيلول الحالي مقالا في صحيفة يديعوت أحرونوت إحدى أكثر الصحف الإسرائيلية انتشارا بعنوان لماذا اعترفت بدولة فلسطينية جاء المقال مباشرة بعد إعلان حكومته اعتراف بريطانيا الرسمي بدولة فلسطين وفي لحظة حساسة تشهد إبادة جماعية متواصلة في قطاع غزة وسط تصاعد الإدانات الدولية والضغوط على إسرائيل بسبب الجرائم ضد المدنيين التي وصفتها محكمة العدل الدولية ومنظمات حقوقية بأنها جرائم إبادة وجرائم حرب ما يميز هذه الخطوة ليس مضمون القرار نفسه فحسب بل اختيار ستارمر مخاطبة الجمهور الإسرائيلي مباشرة عبر الإعلام المحلي فبدلا من الاكتفاء ببيانات رسمية أو خطابات في المحافل الدولية لجأ إلى واحدة من أهم الصحف الإسرائيلية لشرح دوافع قراره محاولا بذلك تشكيل الرأي العام داخل إسرائيل وإقناع الإسرائيليين بأن الاعتراف بدولة فلسطينية لا يتعارض مع أمنهم ومصالحهم بل يعززها على المدى الطويل nbsp هذه الظاهرة أي أن يكتب زعيم غربي مقالا في صحيفة إسرائيلية كبرى ليست جديدة لكنها نادرة وتحمل دلالات سياسية عميقة ففي الثامن من يوليو تموز عام 2014 اختار الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما أن يخاطب الجمهور الإسرائيلي مباشرة عبر مقال نشره في صحيفة هآرتس في لحظة شديدة التوتر تزامنت مع بدء العملية العسكرية الإسرائيلية على غزة المعروفة باسم الجرف الصامد جاء المقال بعنوان السلام هو الطريق الوحيد للأمن الحقيقي لإسرائيل والفلسطينيين دعا فيه أوباما إلى ضبط النفس ووقف التصعيد العسكري مؤكدا أن أمن إسرائيل لا يمكن أن يتحقق من خلال القوة وحدها بل عبر سلام قائم على العدالة وحقوق الفلسطينيين في تلك الفترة كانت العلاقة بين أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متوترة إلى حد غير مسبوق بسبب الخلاف حول ملف الاستيطان والمفاوضات النووية مع إيران إضافة إلى استهداف المدنيين في غزة اختيار أوباما لصحيفة هآرتس لم يكن عشوائيا فهي تمثل الصوت الليبرالي والنخبوي في إسرائيل وتصل إلى جمهور من صناع الرأي والسياسيين والأكاديميين بهذا الاختيار سعى أوباما إلى تجاوز حكومة نتنياهو التي كان يعتبرها عقبة أمام أي تقدم سياسي والتوجه مباشرة إلى الشعب الإسرائيلي لإقناعهم بأن سياسات واشنطن رغم اختلافها مع الحكومة لا تعني التخلي عن أمن إسرائيل بل تهدف إلى تحقيق استقرار طويل الأمد هذه الإستراتيجية تعرف في عالم السياسة والإعلام بـالدبلوماسية العامة وهي ممارسة التواصل مع الجماهير الأجنبية لتعزيز العلاقات وبناء الثقة أصبح ينظر إلى هذه الوسيلة على أنها الأكثر شفافية التي قد تمارسها دولة ذات سيادة مع جماهير الدول الأخرى وهي جزء لا يتجزأ من دبلوماسية الدولة الآن بعد 11 عاما كرر رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر هذا النموذج في مقاله حاول ستارمر تبرير اعتراف بريطانيا الرسمي بدولة فلسطين مؤكدا أن هذه الخطوة ليست مكافأة لإرهاب حماس بل وسيلة لحماية أمن إسرائيل وضمان مستقبلها اختيار ستارمر لصحيفة واسعة الانتشار مثل يديعوت أحرونوت يختلف عن اختيار أوباما هآرتس فهو يستهدف جمهورا أوسع يشمل التيار الوسطي واليميني المعتدل وليس النخب السياسية والفكرية فقط ورغم اختلاف السياقات فإن ما يجمع بين الحالتين هو وجود خلافات حادة مع حكومة نتنياهو ففي عام 2014 استخدم أوباما الصحافة الإسرائيلية منصة لكسر هيمنة نتنياهو على الرواية الداخلية وفي عام 2025 وجد ستارمر نفسه أمام حكومة تتحدى الضغوط الدولية وتواصل سياسات الإبادة فاختار بدوره أن يخاطب المجتمع الإسرائيلي مباشرة ليشرح موقف بريطانيا هذا التشابه يشير إلى أن نتنياهو الذي كان في السلطة في الحالتين يمثل عقدة متكررة في العلاقات بين إسرائيل وحلفائها الغربيين ما يدفع القادة الأجانب إلى الالتفاف على حكومته عبر وسائل الإعلام اختيار ستارمر نشر مقاله باللغة العبرية في صحيفة يديعوت أحرونوت هو خطوة مقصودة تحمل رسائل متعددة فاللغة هنا لا تقتصر على كونها أداة للتواصل بل هي رمز للانتماء والشرعية عندما يقرأ الإسرائيليون مقالا بالعبرية في جريدتهم اليومية يتعاملون معه بوصفه جزءا من حوارهم الوطني وليس ضغطا خارجيا بهذا يصبح ستارمر طرفا في النقاش الداخلي ينافس نتنياهو وحكومته في ساحة الرأي العام بدل أن يكون مجرد زعيم أجنبي يطلق تصريحات من بعيد هذا يعطي لموقف بريطانيا وزنا أكبر ويمنحه حضورا ملموسا في المشهد السياسي الإسرائيلي من زاوية أعمق يمكن أيضا قراءة هذا الاختيار في إطار الصراع على السردية فستارمر يدرك أن نتنياهو سيحاول استغلال قرار الاعتراف البريطاني بدولة فلسطين لتعبئة الداخل الإسرائيلي عبر تصويره خطوة معادية لإسرائيل أو مؤامرة دولية تستهدفها ومن خلال استخدام صيغة المتكلم الفردية أنا يسحب ستارمر البساط من تحت نتنياهو ويمنعه من تحويل النقاش إلى مواجهة بين إسرائيل وبريطانيا وبدل أن يظهر الموقف على أنه صراع بين دولتين يقدمه خلافا بين شخصيتين سياسيتين ما يضع نتنياهو في موقع أصعب إذ يضطر إلى مهاجمة ستارمر شخصيا وليس دولة بأكملها ما يضعف خطابه القومي ويحد من قدرته على استثارة مشاعر الخوف والتعبئة الوطنية التي اعتاد استخدامها في مثل هذه اللحظات لكن هذه الخطوة رغم ذكائها السياسي تحمل مخاطر واضحة فبينما قد يراها بعضهم رسالة احترام وتواصل مباشر قد يفسرها آخرون نوعا من التدخل في الشؤون الداخلية هذا بالضبط ما قد يستخدمه نتنياهو وحلفاؤه لتعزيز خطابهم القومي عبر تصوير المقال محاولة لتقويض الحكومة المنتخبة هنا يظهر التوتر الكامن في مثل هذه المبادرات الأداة التي يراد بها بناء جسر مع الجمهور قد تستغل في المقابل لإقامة جدار سياسي الجمع بين النشر بالعبرية وصيغة المتكلم في العنوان لماذا اعترفت بدولة فلسطينية يصنع خطابا مزدوجا شخصيا في مظهره وسياسيا في جوهره فهو يبدو رسالة صادقة من فرد إلى شعب لكنه في الوقت نفسه فعل سياسي دولي يضع بريطانيا في قلب النقاش حول مستقبل الصراع وهنا تتضح طبيعة المقال بوصفه أداة دبلوماسية إعلامية إذ تتحول اللغة ووسيلة النشر إلى أدوات للتفاوض والتأثير لا تقل أهمية عن الاجتماعات الرسمية أو البيانات الحكومية بهذا المعنى لم يكن مقال ستارمر مجرد شرح لقرار الاعتراف بدولة فلسطين بل محاولة لإعادة رسم المشهد الإعلامي والسياسي عبر مخاطبة الإسرائيليين بلغتهم ومن داخل مساحتهم الإعلامية ليصبح جزءا من حوارهم الداخلي وليس مجرد صدى لصوت خارجي يبدأ ستارمر مقاله بتأسيس جسر عاطفي مع القارئ الإسرائيلي فيضع نفسه في قلب معاناته اليومية قائلا وضع المختطفين حاضر دائما في أفكاري أكرر وأطالب بالإفراج عن المختطفين فورا ومن دون شروط في هذه الافتتاحية لا يتحدث ستارمر السياسي بل الإنسان الصديق الذي يواسي صديقا آخر ليزرع منذ اللحظة الأولى بذرة الثقة هذه الكلمات تطمئن القارئ أن المتحدث لا يأتي لفرض مواقف خارجية بل لأنه يتفهم وجعه ما يفتح الباب أمامه لتقبل ما سيأتي لاحقا من مواقف أكثر إثارة للجدل مثل الاعتراف بدولة فلسطينية بعدها ينتقل ستارمر بخطوة محسوبة إلى الحديث عن غزة مستخدما لغة تحمل شحنة أخلاقية عالية فيقول الموت والدمار والجوع في غزة غير مقبولين بتاتا هذا الوضع يجب أن ينتهي أناشد الحكومة الإسرائيلية بوقف الهجوم وإغراق غزة بالمساعدات الإنسانية هنا تتجلى محاولة ستارمر للجمع بين الحس الإنساني والحذر السياسي فهو يصف المأساة بوضوح من دون أن يوجه اتهاما مباشرا لإسرائيل ومن دون استخدام مفردات مثل الإبادة أو المجاعة ما يمنحه مساحة للتعبير عن موقف أخلاقي قوي مع تجنب استفزاز القارئ الذي قد يرفض لغة الاتهام الجملة تكشف أيضا عن وعيه بأن استمرارية الإبادة في غزة تهدد صورة إسرائيل عالميا وأن بريطانيا تريد أن تظهر قوة تدعو إلى السلام من دون أن تقطع خيوط التحالف مع تل أبيب لاحقا يضع ستارمر القارئ أمام لحظة الحقيقة حين يكشف جوهر مشروعه السياسي في جملة واحدة حاسمة التقدم نحو السلام والتطبيع لا يمكن أن يحدث من دون الاعتراف بدولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل هذه العبارة لا تطرح بوصفها أعطية للفلسطينيين بل هي شرط لاستمرار المشروع الإسرائيلي نفسه إذ لا تتحدث عن عدالة تاريخية أو حقوق وطنية بل عن مصلحة إسرائيلية بحتة بهذا يوجه ستارمر اعترافه إلى الداخل الإسرائيلي باعتباره وسيلة لإنقاذ إسرائيل وليس لتغيير موازين القوة هذه النقطة تكشف المنطق الغربي التقليدي الذي طالما قدم تحت شعار حل الدولتين فتصبح الدولة الفلسطينية وسيلة لتطبيع أوسع وليس غاية في ذاتها لتعزيز هذا الطرح وتهدئة المخاوف يضيف ستارمر تفصيلا يوضح حدود هذه الدولة فيطمئن القارئ قائلا الدولة الفلسطينية يجب أن تكون منزوعة السلاح فلن يكون لديها جيش ولا سلاح جو هنا يكشف ستارمر بوضوح أن اعترافه لا يعني منح الفلسطينيين سيادة كاملة بل دولة مقيدة محصورة ضمن إطار أمني تهيمن عليه إسرائيل هذه الجملة تمثل صمام الأمان النفسي للجمهور الإسرائيلي وتؤكد أن أي خطوة نحو السلام لن تخلخل ميزان القوة القائم في الوقت نفسه تعكس المفارقة الكبرى اعتراف ظاهري بحق الفلسطينيين يقابله في الجوهر نفي لإمكانية أن يمتلكوا أدوات حقيقية لحماية أنفسهم يختم ستارمر مقاله بلغة محملة بالرمزية الثقافية والدينية مخاطبا الإسرائيليين بهذه الروح أتمنى للجميع سنة جديدة مليئة بالسلام والصحة والسعادة سنة طيبة وحلوة هذه النهاية ليست مجرد مجاملة بل جزء من بناء صورة متكاملة زعيم غربي يتحدث بلغتهم في صحيفتهم وفي توقيت يسبق رأس السنة العبرية ليظهر كمن ينتمي إلى هذا الفضاء الرمزي ولو مؤقتا إنها محاولة لتليين أثر الأفكار السياسية التي طرحها ولإغلاق النص على نغمة أمل تخفي صلابة القرارات التي سبقتها بهذا التدرج المدروس ينسج ستارمر مقاله باعتباره خريطة طريق خطابية يبدأ بالعاطفة والإنسانية يمر عبر الأخلاق والسياسة ثم ينتهي بالرمزية والهوية المشتركة كل جملة تبدو حلقة في سلسلة متصلة إذ تستخدم اللغة لإعادة رسم الحدود بين ما هو ممكن وما هو مسموح في النقاش الإسرائيلي حول فلسطين ليصبح اعتراف بريطانيا بدولة فلسطينية خطوة لا تهدد إسرائيل بل تقدم باعتبارها طريقها الوحيد للبقاء في مقاله حرص ستارمر على أن يقدم نفسه منذ البداية صديقا لإسرائيل فقال صراحة صديقا لإسرائيل أريد أن أشرح هذا القرار هذه العبارة تكشف في العمق عن منطق استعماري متجذر إذ تتحدث بريطانيا مع إسرائيل بلغة الحليف القديم متجاهلة دورها التاريخي قوة مهدت لقيام المشروع الصهيوني بدءا من وعد بلفور عام 1917 وصولا إلى الانتداب البريطاني الذي وفر الغطاء لتهجير الفلسطينيين وسلب أرضهم هكذا يظهر ستارمر في مقاله وكأنه يستكمل وعبر الصحافة ما بدأته بلاده قبل أكثر من قرن بقوة السلاح والسياسة فهو يقدم اعترافا رمزيا بدولة فلسطينية منزوعة السيادة ليس تصحيحا لخطأ تاريخي ارتكبته بريطانيا بل خطوة جديدة لضمان استمرارية إسرائيل وتوسيع شرعيتها وبينما يصف نفسه صديقا تتحدث نصوص المقال ومضمونه بلغة السيد الذي لا يزال يرسم حدود ما هو مسموح للفلسطينيين ويحدد شكل دولتهم ومستقبلهم